أحمد تركي

من الأمور التي أباحها الشرع الحنيف، وفيها متعة وانبساط، مزاح المسلم مع إخوانه، وإدخال السرور عليهم، قال الزبيدي: “المزاح هو المباسطة إلى الغير على جهة التلطف والاستعطاف، وقد قال الأئمة: الإكثار منه والخروج عن الحد مخل بالمروءة والوقار، والتنزه عنه بالمرة والتقبض مخل بالسُّنة، والسيرة النبوية المأمور باتباعها، والاقتداء، وخير الأمور أوسطها”.

ومن الأدلة على مشروعيته ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ- قَالَ: أَحْسِبُهُ فَطِيمًا، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: “يَا أَبَا عُمَيْرٍ! مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟”. نغر كان يلعب به.

قال ابن حجر – رحمه الله -: “وفيه جواز الممازحة وتكرير المزح، وأنها إباحة سنة لا رخصة، وأن ممازحة الصبي الذي لم يميز جائزة، وتكرير زيارة الممزوح معه، وفيه ترك التكبر والترفع، والفرق بين كون الكبير في الطريق فيتواقر أو في البيت فيمزح”.

وروى الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “يَا ذَا الأُذُنَيْنِ”. قال أبو أسامة: يعني يمازحه.

وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا – أي تمازحنا -، قال: “إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا”.

وروى أبو داود من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رجلًا أتى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ! احْملنِي، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ”، قَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “وَهَلْ تَلِدُ الإِبِلَ إِلَّا النُّوقُ؟”.

وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس رضي الله عنه : أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا كَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْهَدِيَّةَ مِنَ الْبَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ”، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا، قَالَ: فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَلَا يُبْصِرُهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: أَرْسِلْنِي، مَنْ هَذَا؟ فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْزَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟”، فَقَالَ زَاهِرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا وَاللَّهِ! تَجِدُنِي كَاسِدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ”، أَوْ قَالَ:”وَلَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ غَالٍ”.

وروى الترمذي في الشمائل المحمدية: أن عجوزًا أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ: “يَا أُمَّ فُلَانٍ، إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ”، قَالَ: فَوَلَّتْ تَبْكِي، فَقَالَ: “أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا ﴾ [الواقعة: 35 – 37]”.

قال بكر بن عبد الله: “كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبادحون – أي يترامون – بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال”.

قال ابن حبان – رحمه الله -: “الواجب على العاقل أن يستميل قلوب الناس إليه بالمزاح وترك التعبس، والمزاح على ضربين: مزاح محمود، ومزاح مذموم، فأما المزاح المحمود، فهو الذي لا يشوبه ما كره الله – عز وجل -، ولا يكون بإثم ولا قطيعة رحم، وأما المزاح المذموم، فالذي يثير العداوة، ويذهب البهاء، ويقطع الصداقة، ويجرئ الدنيء عليه، ويُحقد الشريف به”.

المزاح له ضوابط، فمن ذلك:

1- أن لا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدِّين، فإن الاستهزاء بالدِّين من نواقض الإسلام، قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [التوبة: 65]. قال ابن تيمية – رحمه الله -: “الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه”. مثل الاستهزاء باللحية أو الثوب القصير وغيرها ..

2- أن لا يكون المزاح إلا صدقًا، فقد روى الترمذي في سننه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ فَيَكْذِبُ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ”.

وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ يُضْحِكُ بِهَا جُلَسَاءَهُ، يَهْوِي بِهَا مِنْ أَبْعَدَ مِنَ الثُّرَيَّا”.

3- ألا يكون المزاح فيه ترويع للمسلم، روى أبو داود في سننه من حديث: عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُم كَانُوا يَسِيرُون مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ، فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا”.

وروى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن السائب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لَا يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا”.

4- ألا يكون المزاح فيه سخرية واستهزاء بالآخرين، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]. قال ابن كثير – رحمه الله -: “المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم والاستهزاء بهم، ويعد من صفات المنافقين”.

5- ألا يكثر منه فيصبح ديدنه، وإنما يكون المزاح بمقدار الملح في الطعام، قال النووي – رحمه الله -: قال العلماء: “المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط، ويُداوم عليه، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويُورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، فأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يفعله في نادر من الأحوال لمصلحة وتطييب نفس المخاطب ومؤانسته، وهذا لا منع منه قطعًا بل هو سنة مستحبة إذا كان بهذه الصفة، فاعتمد ما نقلناه عن العلماء وحققناه في هذه الأحاديث، وبيان أحكامها، فإنه مما يعظم الاحتياج إليه. وبالله التوفيق”.

6- أن ينزل الناس منازلهم، فلا يصلح أن يمزح مع جميع الناس، فالكبير له قدره، وللعالم منزلته، فلا يمازح السفيه ولا الأحمق ولا من لا يعرفه، قال سعيد بن العاص: “اقتصد في مزاحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ عليك السفهاء”.

قال ابن حبان – رحمه الله -: “من مازح رجلًا من غير جنسه، هان عليه واجترأ عليه، وإن كان المزاح حقًّا؛ لأن كل شيء لا يجب أن يسلك به غير مسلكه، ولا يظهر إلا عند أهله”.

7- اختيار الوقت المناسب، فلكل مقام مقال، قال رجل لسفيان بن عيينة – رحمه الله -: المزاح سبة، فأجابه قائلًا: بل هو سنة، ولكن لمن يحسنه ويضعه في موضعه.

ومن فوائد المزاح:

1- أن فيه منفعة، وانبساط مع الآخرين، وإدخال السرور عليهم، وتطييب لخواطرهم، روى الترمذي من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “وَتَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ”.
قال سفيان بن عيينة: إنما كان صلى الله عليه وسلم يمزح؛ لأن الناس مأمورون بالتأسي به والاقتداء بهديه، فلو ترك الطلاقة والبشاشة، ولزم العبوس والقطوب لأخذ الناس أنفسهم بذلك، على ما في مخالفة الغريزة من المشقة والعناء؛ فمزح ليمزحوا”.

2- أن فيه تأليف للقلوب، وطرد للسأم والملل الذي يعتري كل إنسان.

3- التخلص من الهموم والأحزان، وإبدالها بالسرور والانبساط، ولذلك لما جاء عمر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد اعتزل نساءه في مشربة له، فقال: يا رسول الله! طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَيَّ فَقَالَ: “لَا”، ثُمَّ قُلْتُ- وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَقُرَيْشٍنَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَذَكَرَهُ، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قُلْتُ: لَوْ رَأَيْتَنِي وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ،فَقُلْتُ: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم – يُرِيدُ عَائِشَةَ – فَتََبَسَّمَ أُخْرَى .

4- قال ابن حبان وهو يتحدث عن المزاح: “وإذا كان من غير معصية فإنه يسلي الهم، ويرفع الخلة، ويحيي النفوس، ويذهب الحِشمة، فالواجب على العاقل أن يستعمل من المزاح ما يتسبب بفعله إلى الحلاوة، ولا ينوي به أذى أحد ولا سرور أحد بمساءة أحد”.

من أحمد تركي

مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف