- أحمد حسني يكتب: أسرى الثورات - ديسمبر 25, 2018
- أحمد حسني يكتب: كيف نقيم إطلاق سراح القس الأمريكي في تركيا - أكتوبر 21, 2018
حتى نستطيع تقييم هذا الأمر بصورة صحيحة ونحدد إذا كان ما حدث هو أمر إيجابي لتركيا أم أمر سلبي، يجب أن نعرف أولا، ما هي استراتيجية وأهداف السياسة التركية!؟، ما هي القدرات الحقيقية للنظام التركي!؟، الظروف الداخلية والإقليمية والدولية التي تتحرك من خلالها تركيا!؟، وأمور أخرى كثيرة، ولكن لعل هذه أهمها، وقد فوجئت الحقيقة بالعديد من التعليقات من الأصدقاء ترصد الحدث بمعزل تام عن هذه الأمور، وهذا بكل أسف خلل كبير في منهج التحليل والتقييم!؟
وبالطبع ما ذكرناه من أمور يجب العلم بها قبل التقييم والتحليل تحتاج إلى دراسات متعمقة ومجلدات، لكن في عجالة شديدة، هناك نقاط رئيسية لا يجب أن تغيب عنا عندما نتحدث عن تركيا وهي:
1- تريد تركيا أن تحجز لها مكانا بين الدول المؤثرة على الخريطة العالمية، ولكنها ليست من الدول العظمى حاليا ولا ينتظر أن تكون كذلك في المدى القريب.
2- تعتمد تركيا في سياستها على منهج التقدم الثابت البطيء وليس القفزات السريعة.
3- تعمل تركيا على تعظيم مرتكزات قوتها يوما بعد يوم بحيث تزداد مساحة تأثيرها على الساحة السياسية الدولية وينظر إليها أنها لاعب قوي وحاضر خاصة في الملفات الإقليمية لتركيا.
4- تحاول تركيا تفادي الدخول في مواجهات صفرية على الأقل في هذه المرحلة.
5- تعتمد تركيا في تصديها للعديد من المشكلات على سياسة حافة الهاوية، بحيث أنها ترفع حدة المواجهة بقدر كبير جدا وهي تعلم أن هذا القدر ليس هو المراد النهائي، ولكن عندما تنزل إلى الحل النهائي تكون قد حققت بالفعل تقدما وإن كان ليس بالكبير.
6- النظام التركي يدرك جيدا حجم الأوراق التي يملكها ومدى فاعليتها ويتصرف في حدودها، ويسعى دائما لأن تكون وعوده نافذة ومحققة حتى يكتسب احترام وندية في التعامل الدولي.
7- عند مواجهة تحديات مع دول أخرى يتعمد النظام التركي دائما عدم إغلاق الباب بالكلية ولكن يترك مساحة ينفذ منها الضوء وتسمح له بالتراجع بأقل قدر من الحرج.
8- يجيد النظام التركي مسألة الاستفادة من الأحداث بصورة ممتازة، وقد تكون الحادثة في ملف معين، فيحصل من ورائها مصالح في ملفات أخرى بعيدة تماما.
9- يحسن النظام التركي ترتيب أولوياته، وتصنيف ملفاته بين استراتيجي وتكتيكي، ويحرص دائما على ألا تكون التنازلات في الملفات الاستراتيجية، ولكن دائما ما تأتي في الملفات التكتيكية.
10- عندما يجد النظام التركي أن هناك ورقة بيده قد قاربت على الاحتراق لا يلقيها إلا وقد عمل على تحصيل أكبر قدر من المصالح من خلفها، ثم بعد ذلك يلقيها ولا يبالي.
11- النظام التركي يتعامل مع المجتمع التركي بطيفه الواسع بحكمة بالغة ولا يصطدم مع بعض المعتقدات والأعراف السائدة في تركيا بقوة دفعة واحدة ولكنه يوجد البديل عنها أولا، فإذا ما رآه الناس وأعجبوا به بدأ في تحطيم ما لا يروق له.
وكما ذكرت هذه نقاط عاجلة قد تحتاج إلى مزيد شرح، ولكن المقام لا يتسع، نعود لقضية القس الأمريكي، ونضع ملاحظات سريعة حولها، قد توضح للبعض كيف تعاملت تركيا معها وهل خرجت منها منتصرة أم منهزمة..!!؟،
بداية مسألة الاحتفاظ بالقس الأمريكي في سجون تركيا مسألة تكتيكية بحتة ولا تمثل ملفا استراتيجيا، فهذه ورقة في يد تركيا ولكنها مؤقتة، لن تستمر فائدتها طول العمر، وقد حققت تركيا بالفعل أكبر فائدة من خلفها وهي وقف خطر هذا الرجل كما أعطت لمن يقف خلفه درسا شديدا يجعله يفكر كثيرا قبل أن يقدم على تكرار الأمر مع تركيا، ومع ذلك فتركيا لم تلق هذه الورقة من يدها بسهولة وبغير ثمن، ونستطيع أن نذكر بعض المصالح التي حصلتها تركيا،
أولا.. لغة ترامب في خطابه لتركيا، في بداية الأزمة لغة تهديد وإصدار أوامر، في نهاية الأزمة ليس هناك أي أوامر، لا توجد تهديدات، بل العكس تماما،
ثانيا.. تعرض الاقتصاد التركي لشبه أزمة بعد الإجراءات الأمريكية ضده على خلفية احتجاز القس، ولكن رأت تركيا أنه ثمن معقول في سبيل ما ستجنيه من مصالح، مع العمل على التعافي التام من الأزمة أو على الأقل تقليل آثارها بأكبر قدر،
وقد استفادت تركيا بالفعل من ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الليرة عن طريق زيادة الصادرات واستقبال أعداد مضاعفة من السياح،
ثالثا.. اختارت تركيا توقيتا عبقريا للإعلان عن الإفراج عن القس، فقد استطاعت بمهارة شديدة تحويل أنظار العالم إلى قضية اختفاء خاشقجي، هناك قدر كبير من التعاطف مع تركيا وموقفها، هناك حالة من التقارب بين أمريكا وتركيا على خلفية أزمة خاشقجي ووضع الإدارة الأمريكية في موقف لا تمتلك فيه إلا التعاطف مع تركيا وتأييد إجراءاتها، انشغال الدول الإقليمية التي تحرك الهجوم الدائم على تركيا بتورطها في قضية خاشقجي، فهي الآن في موقف دفاعي بحت لا يمكنها من الهجوم على الأقل جزئيا، وخاصة أن من مصلحة هذه الدول الوصول إلى ترضية مع تركيا في ملف خاشقجي،
ولذلك رأينا جميعا حالة انسحاب كبيرة لإعلام هذه الدول وذبابها الإلكتروني من عملية الهجوم على تركيا وعملية الإفراج عن القس الأمريكي،
رابعا.. هناك ملفات أخرى حققت فيها تركيا فوائد كبيرة ولكن لم تظهر على الساحة حتى هذه اللحظة، مثل الملف السوري والعراقي والكردي،
خامسا.. على الصعيد الداخلي.. الشعب والإعلام التركي وأحزاب المعارضة منشغلة أيضا بقضية خاشقجي، كما أن انخفاض سعر صرف الدولار اعطى ارتياحا في الشارع التركي وفي الأوساط الاقتصادية التركية وخلف حالة من التفاؤل..
سادسا.. قطاع كبير من الشعب التركي وقواه الانتخابية سيعتبرون أن النظام التركي قد حقق نجاحا في هذه القضية وأنه استطاع إيقاف أمريكا عند حد معين.. وغير ذلك من المصالح التي نستطيع أن نعددها ولكن نكتفي بهذا القدر.
أخيرا، ليس كما يظن البعض أن الطريقة التي تعامل بها النظام التركي في هذه القضية تجعله نظاما يرفع شعارات إسلامية ولكنه هو أبعد ما يكون عنها، وأنه يمارس السياسة القذرة والنجسة كما ذهب البعض، وأنه نظام يفتقد للرجولة كما وصفه البعض، بكل أسف كل من أطلق هذه الأحكام حظه من علم السياسة الشرعية ضعيف،
فكل ما فعله النظام التركي له أصوله في السياسة الشرعية والقواعد الفقهية التي تحكم العمل السياسي، وبإمكان دارسي السياسية الشرعية وقواعدها إثبات ذلك بمنتهى السهولة،
كما أن مفهوم البعض للرجولة يبدو أنه غير صحيح إلى حد كبير، فالرجولة لا تمنع من تحقيق المصالح ودرء المفاسد مع الاحتفاظ بالكرامة والمبادئ والتحرك في مساحات متاحة بمرونة ومهارة، أما التحجر خلف موقف معين وفقدان كل المصالح وتحقيق كل المفاسد فهذا بالتأكيد لا علاقة له بالرجولة.
وفقنا الله جميعا إلى حسن الفهم وحسن العمل.. اللهم آمين