وقَع للصحابة الكرام رضي الله عنهم حوادثُ كثيرةٌ، ونزلتْ بهم أمورٌ عظيمة، كان لكلٍّ منها تأثيرُه على نفسياتهم ومعنوياتهم خلال العهد النبوي، حتى انقضى العهدُ الميمون المبارك.

 

كانوا بشرًا من البشر، وكان الإسلامُ غضا في قلوبهم، مخالفًا لما كان عليه قومُهم، فكان حتمًا أن يُلاقوا من صنوف البلاء ما لم يكونوا يحتسبون، ولولا اللهُ وتثبيتُه إياهم لاندثرَتْ أولُ زمرةٍ تدين ذلك الدينَ الجديدَ، ولم يكن لها أعظمُ شأن في تاريخ البشرِ كلهِم ممن سوى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام!

 

فكانت تضيق صدورُهم ويعزُب الصبرُ عنهم أحيانا: يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ فيحدِّثهم عن أقوامٍ كانوا أشد منهم بلاءً فصبروا. وكان بعضُهم ينطق بما لا يعتقده من شدة البطش به، يقول ابن مسعود: فما منهم أحدٌ -يعني السبعة الذين جهروا بإسلامهم أولَ الأمر- إلا واتاهم على ما أرادوا. ويذكر ابنُ عباس أن الكفارَ كانوا يُجيعون الصحابةَ وينكِّلون بهم حتى لا يقدرُ أحدُهم أن يستويَ جالسا من شدة الضرِّ الذي نزل به، حتى كان الجُعل يمرُّ أمامَه فيقولون: الجعلُ إلهُك من دون الله؟ فيقول: نعم! وقصة عمار بن ياسر مشهورة معلومة.

 

كان يبلغ إياسُ بعضِهم من بعض الأمور مبلغا عجيبا، قال عامر بن ربيعة: لا يُسلمُ عمرُ حتى يسلمَ حمارُ الخطَّاب! كانت الأمورُ بمكة شديدةً لا تقوم لها الجبالُ. حتى أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نفسَه بث شكواه يوما، يكاد قارئُ القصة يستشعرُ شدةَ الأمر الذي نزل به حتى ألجأه لهذا الدعاء الذي فُتحتْ له أبوابُ السماء: اللهم إليك أشكو ضعفَ قوتي، وقلةَ حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهمني؟ أم إلى عدوٍّ ملَّكْته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضبٌ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتَك هي أوسعُ لي، أعوذ بِنور وجهك الذي أشرقتْ له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تُنزل بي غضبَك، أو يحلَّ علي سخطُك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.

 

ماذا ترى جعل محمدا صلى الله عليه وسلم أكرمَ خلق الله على الله يلهج بهذا الكلام؟! ما الذي يجعله يستجير بالله من غضبه وحلول سخطه؟! هذا الدعاء الجليلُ وإن كان مغلفا بالصبرِ مبطنًا بالتسليم لله، فإنه يبَين كيف كان طريقُ الدعوة شديدَ الوعورة كثيرَ العقبات!

 

في العقبة، قال المسلمون الجددُ لرسول الله: إن شئتَ لنميلنَّ على أهل منى غدا بأسيافنا، فأمرهم بالكف والصبر، نفسياتُهم متحفزةٌ لكن المعايير الشرعيةَ أكبرُ من عواطف الناس.

 

في الهجرة، تواعد عمرُ بن الخطاب والعاص بن هشام وعياشُ بن أبي ربيعة مكانا، وقالوا : فمن تأخر فقد حُبس، فليمضِ صاحباه، فمضى عمر وعياش، وكان العاص قد حُبس، فلحق أبو جهل والحارثُ بن هشام بالركب، وأغريا عياشا بالرجوع فرجع، فأوثقاه وسارا به، فكان المسلمون يتحدثون أن الله لا يقبل ممن افتتن توبة، فضاق الأمر على العاص، حتى أنزل الله: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله)، فبعث بها عمر إلى العاص، ففهمها العاص وفرجَ اللهُ عنه ما كان فيه.

 

في المدينة، انتقل البلاء إلى مرحلة أخرى وصورة مختلفة قليلا. انطلق عبدالله بن جحش وأصحابُه في سرِيةٍ بأوامرَ محددة، فتجاوزوا الأوامرَ، وكان ردُّ الفعل النبوي صدمةً نفسية لهم حتى نزل الوحيُ بالفرج. وقعتِ الغزواتُ والسرايا فكان الرجل يلقى أباه وأخاه وولده فيقاتلهم ويقاتلونه، سمع أبو حذيفة بن عتبة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتْل العباس بن عبدالمطلب، فتحرَّكتْ نفسُه إذ كان شهد أولَ النهار مقتلَ أبيه وأخيه وعمه على الكفر، فقال لنفسه : والله لئن لقيتُه لألحمَنَّه بالسيف!

 

في أُحد كانت الدولةُ للمشركين، فوقع للمسلمين من ألوان البلاء ما خلدته أقلام المؤرخين، والتأملُ في نفسياتهم يومئذ يبعث على التعجب.

 

همت طائفتان من المسلمين أن تفشلا، والله وليهما. أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الرماةَ بأمرٍ مطلقٍ، فلم تصبرْ نفوسُ أكثرهم على أمره فأخذتِ السيوفُ من أجسادهم الكريمةِ مأخذَها وطاروا شهداءَ! شاع في الناس أن رسول الله قُتل، فقعدت طائفةٌ منهم عن القتال من شدة الحزن واليأس! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي : من يأخذُ هذا السيفَ بحقه؟ فلا يقوم له أحدٌ حتى أخذه الزبير!

 

حتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقع له ما جعلَه يبكي وينشج، استُشهد الأسدُ حمزةُ بن عبدالمطلب، فحزن عليه رسول الله حزنا كان أحدَ أشدِّ الأحزان في دهره. عندما أُديرتِ الدائرة على المسلمين، فرَّ بعضُهم حتى بلغ المدينة، وكان ممن فر : سيدٌ من ساداتهم وسابقيهم، عثمان بن عفان!

 

أُسدل ستارُ المعركة، ووضعتِ الحربُ أوزارها، والمتوقعُ أن صدمةَ المسلمين يومئذ بالهزيمة صدمةٌ منكرةٌ، فقد انتصروا قبل سنة فحسبُ، وهُمُ المسلمون وخصمُهم الكفارُ المعتدون، (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا)؟!، لكن لله سننًا لا بد من وقوعها، ولن تجد لسنة الله تبديلا. أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه أن يستووا، حتى يثنيَ على ربه تبارك وتعالى! كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَزِن نفوسَهم بالدين القويم، استوَوْا وصفُّوا صفوفا، فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربه سبحانه وتعالى أحسن الثناء ودعاه أطيب دعاء، ثم ما هو إلا اليومُ وغَدٌ حتى انقلب المسلمون بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوءٌ واتبعوا رضوانَ الله! كان قتلاهم شهداءَ وأحياؤهم في نعمة من الله!

 

ثم كانت بعثتان نبويتان لأسباب دعوية، فطار أهل البعثتين شهداءَ، إحداهما إلى الرجيع، والأخرى ببئر معونة، قُتلوا رحمهم الله غدرا كلُّهم أجمعين، فكان وقعُ الخبرِ على قلب النبي صلى الله عليه وسلم عظيما!

 

كلُّ حادثةٍ في حياة المسلمين كانت تصقل نفوسَهم وتقِيم نفسياتِهم أكثرَ مما قبلها. في أيام الخندق طلب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يتطوع أحدُ المسلمين بالإتيانِ بخبرِ المشركين، والمسلمون في جهدٍ وبلاء من شدة البرد وعصف الريح، فرغَّبهم بالجنة حتى يرغبوا، فلم يقم أحد! حتى اضطُر أن يعيِّن حذيفةَ بنَ اليمان للمهمة، يقول حذيفة : فلم أجد بدًّا من القيام حين دعاني باسمي! حتى تعلمَ شدةَ الأمر وصعوبتَه.

 

وفيها تألبَتِ العربُ بقضِّها وقضيضِها على المسلمين، ونقضتْ بنو قريظة العهدَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظرْ كيف يصفُ ربنا جل جلاله شدةَ البلاء: (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا). وانخذل أهلُ النفاق وما زالوا مخذولين مذ كانوا، وأَطمعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عيينةَ بن حصن في حصةٍ من ثمار المدينة على أن يرجع فقط ولا يقاتل! ثم كفى الله بقدرتِه عبادَه القتالَ، وردَّ أعداءهُ بغيظهم، وسلط رسولَه على بني قريظة فريقا يَقتل وفريقا يأسر، وانفرج البلاءُ عن نعمٍ عظمى كان من أعظمها بشارةٌ نبويةٌ جليلة : لا تغزونا قريش بعدها! سوى أمورٍ كثيرة في تلك الغزاة من إطعام المسلمين من طعام قليلٍ فيشبعون منه، أكثر من مرة، ثم البشائر النبوية بالفتوحِ، فلما فتح الله على المسلمين البلاد بعد ذلك، قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله!

 

بعدئذ وقعتْ قصةُ الإفك، وكانت واللهِ بلاءً مبينا، الناسُ يخوضون في الأمر، حتى زلَّ فيه بعضُ الصحابة الكرام، حسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، ومسطح بن أثاثة الذي كان ينفق عليه أبو بكر! وعائشةُ مريضة لا تدري بكل ذلك، وكانت تنكر غيابَ اللطف النبوي بها، حتى كانت الفاجعةُ وعلمَتْ بالخبر، فبكتْ يوما وليلتين لا يرقأُ لها دمعٌ ولا تكتحل بنوم، فلما دخل عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتكلم بكلامه، استمسك الدمع من شدة الذهول إذ كان رسول الله فيما ترى مصدقا لما انتشر عنها، فسألتْ أمَّها وأباها أن يجيبا رسولَ الله، فلم يَحْرِيا جوابا، فتكلمتْ بكلامٍ بليغ مفعمٍ بالشعور بالظلم مع العجز عن رده – الظلمُ هنا الإفك الذي انتشر عنها -، فلم تلبثْ حتى نزل الوحي بأعظم البشائر، فقالت أمها : قومي إلى رسول الله، فقالت : واللهِ لا أقوم إليه ولا أحمدُ إلا اللهَ! يا لشدة ذلك الأمر على قلبِ فتاةٍ ابنة ثلاثة عشر ربيعا أو نحوها، هي أحبُّ الناس إلى زوجها العظيم صلوات الله وسلامه عليه! فامتنع أبو بكر من النفقة على مسطح، حتى جاء الوحي يزيل هذه الشائبة من حظ النفس -التي لو كانت لغيره لحَقَّتْ له، لكنه أبو بكر! – ويجري ذلك النهر الفياض بالنفقة والسخاء على ما كان من عهده!

 

ثم كانت غزوة الحديبية، وما أدراك ما الحديبية! خرج عثمان بنُ عفان إلى مكة لطلب الفسح للمسلمين ليدخلوها معتمرين، فرفضوا ذلك، وتناهى إلى المسلمين أنه قُتل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالبيعة المباركة، ثم خرجتْ رسلُ قريش رجلا بعد رجل، حتى كان آخرَهم سهيلُ بن عمرو، ومعه كانت الهدنةُ التي كاد المسلمون يموتون منها غما!

 

شروطٌ استنكرها المسلمون فقد كانوا يرجون أن يكونوا هم الأعلَيْن، لا يريدون أن يُعطَوُا الدنيةَ في دينهم، حتى كان منهم عمرُ بن الخطاب السيد الكريم المحدَّث الملهَم! ثم لم ينقضِ الكتابُ حتى خرج أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده، فاشترط سهيل بن عمرو أن هذا أولُ مَن تطبَّق عليه الشروطُ وإلا فلا صلح! فوفى له النبي صلى الله عليه وسلم بشرطه، فازداد المسلمون غما إلى غمهم الذي هو أصلا شديد، وكاد عمر يخرج عن صوابه لولا أن ثبته اللهُ برسول الله وبأبي بكر، حتى أن المسلمين امتنعوا عن الحلْق إذ أمرَهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فغضب فأشارتْ عليه المرأة العاقلة أم سلمة بأمر حسن، فلما حلق بعضُهم لبعض كادوا يقتلون بعضهم غما.

 

ثم ماذا؟ ثم إنه في الطريق أُنزلتْ: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا)! وأي فتح أعظم؟! أما أولُ بركاته فالبيعةُ التي رضي اللهُ عن أهلها المباركين، ثم ما كان بعد ذلك من فتح خيبر وفدك وغيرها، وبلوغ المسلمين المقاتلينَ عشرةَ آلاف نفس في سنتين فقط، بينما كانت حصيلة الدعوة في تسع عشرة سنة = ألفا وستمئة نفس على أكثرِ تقدير هم أهلُ البيعة، ثم أهلوهم الذين في المدينة، والمستضعفون بمكة، الذين كان الفرج أقربَ إليهم من الأرض التي تحت أقدامهم، على يد الرجل المبارك أبي بصير، الذي به انتقض شرطٌ جائرٌ من شروط البيعة، ثم أم كلثوم بنت عقبة، التي خرجتْ مهاجرة ونزل بسببها أحكامٌ عظيمة من أحكام الإسلام، ثم خروج خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة مسلمين غير مكرهين ولا مغلوبين، بل طائعين مختارين، وكان لهم عظيمُ القَدم في الإسلام!

 

وكانت غزوة خيبر! قُتل فيها عامر بن الأكوع، ضرب نفسَه بالسيف خطأً فمات، فأرجف الناسُ بسلمة بن الأكوع حتى حزن، ثم سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال : إن له لَأجرَيْن! فسُري عنه. ولما فُتحت خيبر، قال المسلمون : الآن نشبع من التمر! أترى ما الذي كان يفرح المسلمين يومئذ؟! أتبصر الجهد الجهيد الذي كانوا فيه قبلئذ؟!

 

ثم كانت موقعة مؤتة، أولُ مواجهة بين المسلمين والروم، فكانت كفةُ الميزان العددي راجحةً لصالح الكفار بأضعاف ما هي للمسلمين، فزُلزلتْ بعضُ النفوس ودخلها الخوفُ واشتَوَروا لطلب المدد من رسول الله، فنشطهم عبدُ الله بن رواحة بكلمات خالدات، لكن الشيطان لم يكن لِيَدعَ هذا الرجلَ الصالح نفسَه من شيء يحتال به عليه، فزَين له الدنيا يريده أن يرجع عن القتال، فتردد ابنُ رواحة ثم أقدمَ وهو يرتجز أراجيز مشتهرة، ثم لحق بأخويه : زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب، إلى جنات الخلد!

 

وجعفر كان في الحبشة سنين عددا، فما رجع إلا مع فتح خيبر، ثم انطلق غازيا إلى مؤتة، فكان بين رجوعه وبين استشهاده نحوٌ من سنة، فحزن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى زيد بن حارثة – حِبُّ رسول الله – حزنا شديدا، تروى له فيه قصصٌ مبكية.

 

ثم سار الزمان سَيرَه، وفتح الله على المسلمين مكة وحنينا والطائف، ثم مضى الدهر حتى كانت غزوة تبوك، وكانت في زمانٍ شديد الحر، طابت فيه الظلالُ والثمارُ، وأحبَّ الناسُ القعود والراحةَ، فكان الجهاد وقتها مستثقلا، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة)، فانطلق الناس يتجهزون ويستعدون للخروج، وبقي نفرٌ قليل لم يخرجوا، تزينت لهم الدنيا فقعدوا وهم يمنُّون أنفسهم بالخروج حتى ذهب الزمانُ ومضى الناس، فلما انتهى الغزو ذهب كلُّ صاحبِ عذرٍ بِعذره، وذهب هؤلاء بصدقهم وإيمانهم ليس لهم غيرُه، فكان للصدق مرارةٌ أولَ الأمر، أربعين يوما لا يكلمهم أحدٌ ولا يجلس إليهم رجلٌ، ثم عشرةَ أيام يمتنع أزواجُهم منهم، حتى ضاقت عليهم الأرضُ بما رحبتْ وضاقت عليهم أنفسهم، ثم أنزل الله توبته وكشف عنهم الغم والكربَ، وفرح بهم المسلمون فرحا عظيما، وظهرت حلاوةُ صدقهم وإن كانت ثمرتُه مريرةً في أولها!

 

ثم دخل الناس في دين الله أفواجا، ودانوا بالحق الذي لا ريب فيه، ثم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجًّا، وتبعَه الناسُ يلتمسون الاقتداء به، فحج بهم وعلمهم مناسكَهم وخطب فيهم خطبا عظيمة جليلة شاملة عامة فيها من كلِّ أمرٍ حسنٍ، ثم أنزل الله: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).

 

أرأيت متى أُنزلتْ هذه الآيةُ؟ بعد أكثر من عشرين سنة كان البلاءُ فيها لا يحصى كثرةً ولا يطاق شدةً، ذاق المسلمون في تلك المدة من صنوف الابتلاء ولاقَوْا من صور الامتحان ما كان خليقا بغيرهم أن يترك دينَه لأقلِّ ذلك، أو أن يتماهى من صورٍ من الكفر والنفاق يجد فيها فسحةً من أمره، وكان كما قال الله: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله)، وكما قال سبحانه: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)، وقال جل في علاه : (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)!

 

وتكالب الناسُ عليهم ما بين مكذِّبٍ بدينهم، ومحاربٍ لهم، وطامعٍ في القليل من الدنيا الذي بين أيديهم، ومُرجفٍ بهم، ومندَسٍّ في صفوفهم وهو عدوٌّ لهم، ووقع لهم ما يقع من المصائب التي تقع لكل الناس، قال الله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات)، وقال جل جلاله: (لتُبلون في أموالكم وأنفسكم ولتَسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا)، وأنزل في سورة التوبة من فضيحة المنافقين المخذولين ما كان حقيقا أن يفغر المؤمنُ فاه دهشةً له، ثم كان ماذا؟!

 

ذهب ذلك الأمرُ كلُّه، وأكمل الله دينَه وأتم نعمتَه، وما كان من شدةٍ إلا أعقبها فرجٌ، وما كان عسرٌ إلا معه يُسران، وحفظ اللهُ على القوم دينَهم، وحفظ بهم دينَه وشرعتَه، واستخلفَهم في الأرض ومكَّن لهم وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا، واتَّزنتْ نفسياتُهم التي طالما قلَّبتْها صروفُ الزمان ومكايدُ الشيطان، وصاروا كالشُّمِّ الرواسي لا تهزُّهم الرياحُ ولا تحطمهم الدنيا بقرونها، ورفع اللهُ ذكْرَهم في الدنيا وفي الآخرة، ورضي عنهم وأرضاهم، (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم)!

من د. أنس الرهوان

طبيب، كاتب وباحث