الاستبداد في الأصل، احتكار سلطة تفكير وتسيير، وحجبها عمن لهم الحق في المشاركة، والاستئثار بطبيعته، نظر بعين واحدة.. عَوَر، أخطر من عور العين، لأنه عور تفكير، وعور اتخاذ قرار، وعور صنع القرار.. عور في كل شأن من شئون المؤسسة ، والإدارة والوطن، وكل ساحة تقع فريسة للاستبداد، وهو الأمر الذي يهيئ التربة كي تصبح تربة تُنبت السيئ من الفعل، ومن قبله: السيئ من التفكير، حيث لا فعل قبل التفكير فيه في أغلب الأحوال.

 

فاحتكار السلطة يؤدى بالضرورة احتكار سبل توفير الكسب للكثرة الغالبة من المقهورين، فيصبح الشغل الشاغل لك منهم، كيفية اكتساب الرضا من المستبد، حتى يضمن استمرار العيش وممارسة سبله، وتكون سبل كسب الرضا متنوعة الأشكال، مختلفة الصيغ، فتكون أحيانا سوق عبارات وشعارات ومقالات تمدح المستبد بما ليس فيه، وهذا أحط صور الكذب، وأدنأ سبل النفاق.

 

وعندما تكثر في المجتمع مفردات كلام، وصور أفكار لا رصيد لها في بنك الواقع، تنفتح سبل أكثر للكلام فارغ المعنى، مظهره غير مخبره، فيفقد المواطن الثقة في كثير مما يقال، وينظر بعين شك لكثير من الشعارات، ويصبح من البشاعة بمكان، أن يقول إنسان كلاما هو أول من يعلم أنه غير حقيقى، بل ويصل الأمر على الشخص نفسه الذي يقال له هذا الكلام المغشوش، حيث يزداد احتقارا للقائل، وإن أظهر له الرضا والسرور، وتشبع المشاعر المتبادلة بين القائل والسامع: التكذيب والظهور بغير ما يكون في القلب والخاطر.

 

وأخطر ما في كل هذا أن يصير” الكذب” عادة لدى الحاكم والمحكوم؛ فالمحكوم يعلم مؤكدا أن ما يقوله لا يصدر عن إيمان وصدق، والذي يُوَجّه له الكلام يعلم كذلك أن قائله كاذب، فكأن الأطراف جميعا تعيش مجتمعا غير هذا المجتمع الواقع الحقيقي، فتشيع قيم التزييف والغش والخداع..

 

ومن هنا تترسب في لا شعور المقهور علامات احتقار الذات، وهو الأمر الأسوأ، حيث أن المعتاد أن يكون هناك قدر من الثقة بالذات، التي تصل بالبعض إلى تضخم فيها. ولا شك أن الإنسان عندما يفقد الثقة في ذاته، وتتواضع مشاعر الكرامة إلى أدنى درجة ممكنة، يجد المواطن نفسه قابلة لمزيد من التعسف، بل قد تراه حقا للقاهر.

 

ثم لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل ويتجه بالشك إلى آخرين، لم يمارسوا ما يمارسه من نفاق، على درجة أن يتهمهم بالعقوق، وبأنهم يعملون ضد مصلحة الوطن، التي تماهت عند المقهور في المستبد، في عملية إعادة إنتاج لمقولة لويس الرابع عشر في فرنسا الشهيرة: ” أنا الدولة “..

 

وإذا كان تشيع بين عموم الناس مقولة تقال عند تجاوز البعض حدودهم فى تعاملهم مع آخرين، من منطلق توهم تميز واستحقاق: “كلنا ولاد تسعة”، يفرز مناخ استبداد مقولات أخرى تؤكد التفرقة والتمييز والاحتكار كما نرى في عض الأمثال الشعبية المصرية، وليدة عهود قهر واستبداد:

(الميّه ما تجريش فى العالى- اللى يبص لفوق يتعب- العين متعلاش على الحاجب.. وما سار في الاتجاه نفسه..)

 

كذلك تسود مفاهيم تفسد العلاقات الاجتماعية بين الناس، بعضهم بعضا، عند الاختلاف فى الرأى، بحيث يصبح المغاير قولا، أو فكرا: عميلا.. وخائنا.. وإرهابيا، فتحدث خسارة من جانبين:

 

أولاهما: فقدان فرصة الإفادة من الرأي المغاير، حيث احتمال أن يكون هو الأقرب إلى الصواب، والأجدى في مواجهة هذه المشكلة أو تلك، فيتفاقم اوضع سوءا، ونسير على طريق يزداد تعقدا واستعصاء على الحل..

 

وثانيا: تتحلل العلاقات الاجتماعية بين المواطنين، وتغلب نظرة الشك بين هذا وذاك..

 

ومن سيئات الاستبداد الأخلاقية، تطوع البعض ليقوم بدور” المخبر”، ليثبت أنه أكثر ولاء، وأحرص على مصلحة الوطن، التي هي في الحقيقة مصلحة المستبد وحده، فينقل مما يحكى على لسان هذا وذاك من كلام ناقد، كثيرا ما يصدر عن حسن نية، ليتم تصويره على أنه ” كلام عميل”، يشكل خطرا على البلاد، فهذا بالبعض يحرص على كتمان رأيه، وعدم البوح به خوفا من أن يكون السامع متلصصا على كلام الناس!! فيشيع التشكك بين الناس، وتعم الريبة، فتفقد العلاقات اجتماعية من الدفء المنشود، والترابط المأمول، وهو ما يعود بالتأكيد بالسلب على القوة المجتمعية الكلية.

د. سعيد إسماعيل علي

من د. سعيد إسماعيل علي

خبير وكاتب مصري في المجال النفسي والتربوي،