- د. بشير موسى نافع يكتب: الوباء، الدولة، وشعبها - فبراير 12, 2023
- د. بشير نافع يكتب: حينما يتحدث المثقف البائس في القضايا الكبرى للأمم - يوليو 22, 2019
- الاضطراب المحيط بقرار الانسحاب الأميركي من سورية - يناير 23, 2019
لم يكن من الغريب أن يثير قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، 20 ديسمبر، بالانسحاب العسكري من سورية ردود فعل متباينة، داخل الولايات المتحدة وخارجها. كان ترامب أعلن رغبته بالخروج من سورية (وحتى من أفغانستان) أثناء حملته الانتخابية، وعاد للمسألة نفسها في مطلع 2018، قبل أن تقنعه قيادات إدارته، سيما في وزارة الدفاع، بتأجيل القرار. ولكن ترامب، في ظل الضغوط المتزايدة من التحقيقات حول علاقته بروسيا، أصبح أكثر حرصاً على إرضاء كتلته التصويتية الصلبة بالإصرار على تنفيذ وعوده الانتخابية ذات الصبغة القومية الضيقة. وهذا ما أعاد مسائل، مثل الانسحاب من سورية وإقامة الجدار الفاصل على الحدود مع المكسيك، إلى صدر أولوياته السياسية.
وربما كان للمكالمات التي أجراها الرئيس الأميركي مع نظيره التركي دور ما في دفع الأول لاتخاذ قرار الانسحاب، سيما بعد أن أعلنت أنقرة منذ 10 ديسمبر عزمها تعهد حملة عسكرية للتعامل مع التجمعات المسلحة لقوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، الذي تنظر إليه تركيا باعتباره مجرد فرع لحزب العمال الإرهابي. ولكن التحرك التركي على الحدود السورية والاتصالات بين إردوغان وترامب كانت مجرد مناسبة لقرار الانسحاب وليست السبب الجوهري له.
كما أوباما، لا يرى ترامب أن سورية منطقة حيوية للمصالح الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط؛ وبما أن القوات الأميركية أرسلت لمواجهة توسع داعش في سورية والعراق، فمن المنطقي سحب هذه القوات عندما تنتهي مهمتها. وداعش، من وجهة نظر ترامب، دحرت بالفعل، ولم تعد تمثل خطراً على الولايات المتحدة، أو مصالحها في الشرق الأوسط.
بيد أن الوجود العسكري الأميركي في سورية، من وجهة نظر دوائر الدولة والسياسة الخارجية في واشنطن، لم يكن بالبساطة التي ينظر إليها ترامب للأمور. في وزارة الدفاع الأميركية، لم يكن هناك يقيناً بعد أن مهمة القضاء على داعش قد أنجزت بعد. وفي وزارة الخارجية، كما في مجلس الأمن القومي، ثمة من ينظر إلى استمرار الوجود العسكري في سورية إداة فعالة لمواجهة إيران ومنعها من تأمين خطوط إمدادها عبر العراق والشرق السوري، وصولاً إلى ساحل المتوسط. ولا يعتبر النفوذ الإيراني المتسع في سورية مصدر قلق أميركي وجسب، بل وإسرائيلياً وخليجياً كذلك.
إضافة إلى هذا كله، هناك مصير الحلفاء الأكراد من مسلحي حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، التي اتخذتها الولايات المتحدة، منذ 2015، حليفاً وأداة محلية لقتال داعش. وقد رأى كثيرون في واشنطن أن قرار الرئيس المفاجيء يمثل خيانة للأكراد؛ وأن سحب القوات الأميركية من سورية سيترك الأكراد لقمة سائغة لتركيا، من جهة، والنظام السوري، من جهة أخرى.
خلال الأسابيع القليلة التالية على إعلان ترامب قرار الخروج من سورية، تعرض الرئيس الأميركي لضغوط متباينة للتخلي عن قرار الانسحاب كلية، أو تبني جدول انسحاب طويل المدى.
وهذا ما أدى لولادة فكرة البقاء في منطقة التنف، جنوب شرقي سورية، وبدء البحث عن وسائل لحماية الحلفاء من المسلحين الأكراد. ولكن مهمة مستشار الرئيس للأمن القومي، جون بولتون، في أنقرة، لم تفلح في إقناع الأتراك بالتخلي عن عملية شرق الفرات ومهاجمة المسلحين الأكراد. وهذا، أيضاً، ما دفع موسكو إلى التشكيك بجدية قرار الانسحاب الأميركي.
فجر يوم 14 يناير، فاجأ ترامب الجميع بتغريدة صادمة قال فيها أن الولايات المتحدة ستقوم بسحق الاقتصاد التركي إن هاجمت تركيا الأكراد في سورية، بالرغم من أن تصور ترامب المبكر للانسحاب تضمن تسليم شرق الفرات لتركيا، وقيام القوات التركية بالتعامل مع ما تبقى من جيوب داعش في الشرق السوري. ولكن، وخلال ساعات فقط، وبعد اتصال هاتفي بين إردوغان وترامب، عاد الأخير إلى لغة التعاون مع تركيا، طارحاً فكرة المنطقة العازلة على الجانب السوري من الحدود مع تركيا، بهدف الاستجابة للمخاوف التركية الأمنية، من جهة، وحماية الحلفاء المسلحين الأكراد، من جهة أخرى.
فإلى أين وصل مشروع الانسحاب الأميركي بالغ الاضطراب، وكيف تبدو فرصة تنفيذ العملية التركية شرق الفرات؟
المسألة التي تبدو واضحة بصورة كافية أن الولايات المتحدة ستقوم بالفعل بسحب قواتها من سورية؛ ولكن ربما ليس بصورة كاملة، وليس بالسرعة التي تصورها ترامب في البداية. وقع الرئيس بالفعل قرار الانسحاب؛ وما لم يطرأ أمر ليس في الحسبان، فالأرجح أن أغلب القوات الأميركية سيكون قد غادر سورية مع بداية الصيف المقبل، أو ربما حتى قبل ذلك. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن القوات التركية ستحل محل الأميركية المنسحبة، أو أن شرق الفرات سيصبح ساحة متاحة لعمليات الجيش التركي.
أعلنت أنقرة عزمها تنفيذ عملية واسعة شرق الفرات، وبدأت حشد القوات على الجانب التركي من الحدود، في وقت مبكر من ديسمبر، قبل أن تؤمن الشروط السياسية الضرورية لتنفيذ العملية. والواضح أن القيادة التركية حاولت بذلك وضع الأطراف المعنية بالشأن السوري أمام الأمر الواقع، تماماً كما فعلت في عملية عفرين. بمعنى، التحرك، بعد اتخاذ خطوات عسكرية ملموسة، نحو التفاوض على حدود وطبيعة العملية وليس حول تنفيذها. المشكلة، أن وضع شرق الفرات أكثر تعقيداً بكثير من منطقة عفرين، وأن العملية شرق الفرات تتعلق ليس بالروس وحسب، ولكن بالأميركيين أيضاً، إضافة إلى نظام دمشق وحلفائه في إيران.
ليس من الواضح بعد ما إن كانت موسكو وافقت على أن تحل القوات التركية محل الأميركية، إن سحبت الأخيرة كلياً من شرق الفرات؛ ولا مدى ما ستقوم به موسكو من ضغط على النظام في حال عبرت القوات التركية الحدود بالفعل. ولأن ثمة احتمال يزداد قوة بأن الجماعات الكردية المسلحة قد تذهب إلى عقد اتفاق مع النظام، يشمل تسليم مناطق سيطرتها لقواته، هرباً من مواجهة معروفة النتائج مع القوات التركية، فقد تجد أنقرة نفسها أمام متغيرات متسارعة في شرق الفرات حتى قبل الانسحاب الأميركي من المنطقة.
أما من جهة الموقف الأميركي، فقد كشفت التوافقات التي تم توصل إليها منذ الاتفاق حول منبج، الذي لم ينفذ كاملاً حتى الآن، أن أنقرة لا تستطيع في سورية الارتكان إلى مصداقية الحليف الأميركي. وليس من الواضح تماماً ما لذي يعنيه التفاهم الأخير حول منطقة عازلة على الأرض. هل هي منطقة عازلة تديرها وتشرف عليها القوات التركية، كما تريد أنقرة؛ أو هي منطقة عازلة لحماية الوحدات المسلحة الكردية، كما يقول بعض مسؤولي إدارة ترامب.
قد تستطيع أنقرة في النهاية تنفيذ العملية العسكرية شرق الفرات، ولكن هذه العملية لن تكون ضمن الحدود التي تم تصورها في البداية. المتيقن، حتى إن لم تنفذ تركيا عمليتها، أن القوميين الأكراد السوريين، وخلفهم حزب العمال الكردستاني، خسروا الرهان على الأميركيين، ومعه مشروع الكيان الكردي في سورية. لا تركيا ستتسامح مع كيان كردي على حدودها الجنوبية، يقوده فرع سوري لحزب العمال الكردستاني، ولا نظام الأسد سيقبل إنشاء كيان قومي، بهذه الدرجة أو تلك من الاستقلال، داخل الحدود السورية.