بدأت تاريخ نكبة الشام في 8 من مارس سنة 1963، وهو اليوم الذي سطا فيه حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة في الشام فحولها إلى مزرعة له، ثم مزرعة لعصابة أسدية دفعت الشام منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم ثمناً باهظاً ولا تزال، ولم يقتصر دفع الثمن على الشام وأهلها وإنما المنطقة كلها تدفع الثمن، وأول من دفع الثمن فلسطين وأهلها الذين تآمر نظام البعث مع كل أعدائهم وخصومهم فكانت مجازر تلد مجازر، ومآسي تلد أخرى منذ نكبة يونيو عام 1967، ومروراً بنكبات المخيمات من تل الزعتر والكرنتينا والبداوي وطرابلس، وأخيراً بنكبة الشعب السوري الحالية التي لا توازيها نكبة فلسطين ولا غيرها، بعد أن جلبت العصابة الأسدية البعثية كل شذاذ آفاق الأرض من مليشيات واحتلالات، من أجل وأد ثورة الشام العظيمة اليتيمة.

 

أواخر السبعينيات، تعرضت العصابة الأسدية البعثية لانتفاضة، لكن جوبهت بالحديد والنار، وفقد الشعب السوري خيرة أبنائه وبناته ممن نكلت بهم عصابة الأب حافظ، وبعدها بسنوات خرج علينا أحد مؤسسي البعث وهو صلاح الدين البيطار بمقال ناري خاطب فيه الشعب السوري بعنوان: «عذراً شعب سوريا العظيم»، يعتذر فيه عما جرّه البعث وجره غباؤهم عليه من تسلط عصابة طائفية، لكن لم تمهل العصابة الأسدية الأستاذ البيطار طويلاً، حتى أرسلت له من يقتله في باريس، بينما كانت مجموعة أخرى من العصابة مشغولة بقتل سليم اللوزي رئيس تحرير صحيفة الحوادث في لبنان، في حين كان الأستاذ ميشيل عفلق قد غادر مبكراً واستقر به المقام في بغداد هرباً من عصابة طائفية مجرمة أدرك المؤسسون خطرها عليهم وعلى البعث والشعب السوري.

 

كان الأستاذ منيف الرزاز -الأمين العام للقيادة القومية لحزب البعث- قد أدرك خطر العصابة مبكراً، فخرج أوائل الستينيات بكتابه المميز: «التجربة المرة» يحكي فيه طائفية العصابة الأسدية، وما فعلوه بالجيش السوري وبقيادة الحزب، وكيف سرّحوا المئات من الضباط المهنيين المحترفين من الجيش ليحل محلهم ضباط بعثيون طائفيون، وهو ما كان أكبر سبب لنكسة يونيو، وقد جرّ ذلك من مخاطر ومصائب وكوارث على الشعب السوري لا يزال يدفع ثمنها يوماً إثر يوم، ولحظة إثر أخرى.

 

دفع الشعب السوري الأثمان الباهظة لسطو البعث على السلطة، فقد قضى البعثيون على مؤسسات أعرق بلد عربي ديمقراطي، كانت الانتخابات الرئاسية والتشريعية تعقد فيه بشكل حضاري وراق وعلى مقاسات عالمية وبشكل دوري، وكانت الصحافة ووسائل الإعلام مفخرة من مفاخر العرب لتعدديتها ورقيها ومهنيتها، بينما كانت جامعة دمشق تعد سوربون العالم العربي، فضلاً عن مشافي دمشق الراقية، والخدمات العامة المعروفة بجودتها، والمساءلات التي يتعرض لها الرئيس وغيره، كلها تعد مفخرة للعرب والديمقراطية والإنسانية، حتى أتت عصابة البعث الذين لم يروا خيراً في حياتهم، لينتقموا من السوريين ومن حضارتهم وتاريخهم.

 

اليوم أينما اتجهت إلى الشام تجدها في آخر الركب، بل وتجد أهلها في آخر بلدهم، بينما في المقدمة العصابات والمليشيات الأجنبية الآمرة والناهية في البلد، أما أهل البلد إما في القبور أو في المعتقلات أو ممن هام على وجهه لا يلوي على شيء بعد أن فقد كل شيء، وهو يرى الاحتلال الأجنبي هو من يقرر وهو من يحكم، في حين يُعامل طاغية مجرم مثل بشار الأسد كعميل رخيص في زياراته القصيرة والمعدودة إلى بلاد أسياده.

 

لكن ومع هذا كله، لا يزال الشعب السوري يقدم القرابين تلو القرابين، ويصر على نيل حريته وكرامته، ولعل انتفاضة الثمانينيات وثورة اليوم تكملان بعضهما بعضاً، ولا تزال الأسود في إدلب وأرياف حلب وحماة والساحل مصرة على مواصلة الطريق، مدعومة من سوريا المصغرة كلها في الشمال المحرر التي احتضنت كل الأحرار ومن كل سوريا، شعارهم الإصرار على انتزاع حريتهم وكرامتهم، والخلاص من نكبتهم التي بدأت عام 1963، فقد آن لليل أن ينجلي.

من د. أحمد موفق زيدان

كاتب صحفي، سوري