ما من حركة إسلامية إلا وهي تهدف لتغيير الواقع الاجتماعي بدرجة أو بأخرى، غير أننا نرى جهود هذه الحركات وهي تشتبك مع مشاكل المجتمعات وقضاياها تسيس بمختلف درجات التسييس وما ذلك إلا لغلبة العقل السياسي على نخبتها التنظيمية الحاكمة، وهو ما يجعلنا نسأل هذه الأسئلة:

 

أولاً: لماذا تضخم السياسي

 

انحصرت جهود أغلب المصلحين في القرن العشرين الميلادي في مسألة النظام السياسي وضرورة إصلاحه كشرط لازم لتحقيق العدل والحرية ولقيام المنهج الإسلامي في واقع الحياة حتى عده أحد المفكرين الإسلاميين هو كل ما فقدته أمتنا الإسلامية في غفوتها المعاصرة؛ فبسقوط الدولة العثمانية رسميا عام 1924 سقط الكيان السياسي الأخير للدولة الإسلامية في العصر الحديث ونسي – الأستاذ الكريم- أن النظام السياسي لمجتمع ما هو إلا تعبير عن جزء كبير من الفكر والثقافة والاقتصاد والعادات؛ ويؤثر فيها مجتمعة سلبا وإيجابا؛ فالنظام السياسي ما هو إلا كالروح في جسد الإنسان وعندما يفقد الجسد مقومات بقائه الذاتية تفيض الروح حيث لا محل لها من الوجود.

 

وقبل أن يسقط النظام السياسي في الدولة العثمانية كان قد سقط جسم الدولة ومقومات بقائها الذاتية؛ وعندما أضحى لا محل للنظام السياسي فاضت روح ما سمي وقتها رجل أوروبا المريض إلى بارئها.

 

إن البحث عن عوامل النهوض والسقوط في الأمم الكبيرة لهو بحث في سنن الكون الثابتة وما أشد غياب الفكر السنني عن واقع المسلمين وأفكارهم بل وحركاتهم الإسلامية.

 

أيضًا الجزم بأن “الدولة” هي علّة المسلمين الأولى لا يفسر لنا لماذا وقعت الدول -المناطق- الإسلامية التي نجت من براثن الاستعمار في نفس أمراض الدول المستعمرة (بالفتح)؛ كما لا يفسر لنا أسباب السقوط الحضاري لأمة الإسلام في الوقت الذي رفرفت في أعلام الدول الإسلامية (الخلافات الإسلامية المتعددة) في الشرق والغرب من الأندلس حتى الصين.

 

لذا نقول: إن العلة الحقيقية -كما قال (العبقري) مالك بن نبي- هي تلك “القابلية للاستعمار” التي باضت وفرخت في ديار العالم الإسلامي؛ شرقه وغربه، ما نجا منه من الاستعمار وما وقع في براثنه أو بمعنى أصح ما استدعى بضعفه وتفككه الاستعمار لكي يحتله.

 

صحيح أن الدولة في الإسلام من آكد فروض الأعيان على الأمة بمجموعها وأشد فروض الكفاية على كل فرض بحسبه؛ وتأثم الأمة مجتمعة إن لم تقمها أو تعمل على إقامتها؛ وكما يقول الإمام أبو حامد الغزالي: “الدين أس والسلطان حارس؛ وما لا أس له فمهدوم؛ وما لا حارس له فضائع” والدولة في الإسلام ثبتت بإجماع الأمة: فوجوب نصب الإمام فرض على الأمة يجب تنفيذه وهو رأي أهل السنة جميعًا ورأي المرجئة جميعًا ورأي المعتزلة إلا نفرًا قليلاً ورأي الخوارج ماعدا النجدات.

 

فالدولة فريضة وضرورة أما أنها فريضة فلما سبق، وأما أنها ضرورة فلأن بها تندفع أضرار الفوضى وتنفذ الواجبات الدينية والتكاليف الشرعية التي لا تتم إلا بها، ولتحقيق العدل بين الناس وهي ضرورات تزيد من فرضيتها.

 

ويظل التساؤل: هل المجتمع الإسلامي هو الذي يوجد الدولة الإسلامية أم أنها هي التي تخلق المجتمع الإسلامي؟

 

تجربة الاتحاد السوفيتي السابق خلال السبعين عامًا التي عاشها أثبتت أن الدولة بكل ما أوتيت من وسائل قهر منظّم وإعلام وتعليم وأجهزة قادرة على إعادة تشكيل العقول وبرمجة الوعي العام لم تستطع أن تخلق مجتمع يؤمن بها فيمنع انهيارها إزاء تصاعد معدلات علمنتها وضغوط النمط الاستهلاكي الرأسمالي الغربي؛ إذ كانت جموع الناس أول الساعين في هدمها.

 

فالدول التي لم تنبثق من رحم شعب ومجتمع يؤمن بها ويدافع عن أفكارها هي دولة أتت من سفاح لا تملك مقومات البقاء ابتداء ولا شرعية الاستمرار انتهاء.

 

وفي الحركات الإسلامية الحديثة عندما سيطر “السياسي” على كل مجالات الحياة اغترب “الثقافي” وانزوى تاركًا ساحة العمل الإسلامي خالية يصول فيها “السياسي” ويجول: يحدد المفاهيم ويرتب الأولويات لخط سير الحركة؛ وفي خضم لجة العمل السياسي المغرقة ضعفت الحركات الإسلامية عن إفراز كوادر مثقفة (بحق) تغزو المنتديات بما تحمل فكر ناضج وهم مجتمعي وتصور متسق حتى غدت أغلب الحركات محلاً للفعل وموضوعًا للدراسة وكأنها سلبت القدرة على الفعل والدراسة.

 

ونتيجة مستقبلية لذلك أن تصبح بعض مكاسب الحركات الإسلامية السياسية، سواء على الصعيد البرلماني أو النقابي وهم وزبد يذهب جفاء والمكاسب الحقيقة هي فقط تلك التي تتجذّر في وعي الناس وتمكث في الأرض.

 

ثانيًا: هل هو وعي سياسي حقيقي؟

 

مع كل ما بلغته الحركات الإسلامية من شأن في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية إلا أنها لم تخلق عند عموم أفرادها – في الغالب – وعيًا سياسيًا حقيقيًا إذ أن ضعف الوعي السياسي واضمحلال الثقافة هما جزء من الضعف الثقافي العام الذي يطبع أكثر المجتمعات العربية والإسلامية بكل نشاطاتها، كما أن الوعي السياسي يتطلب ثقافة واطلاعًا ومتابعة لما يجري ويدور حولنا؛ وهذا لا يتسنى دون امتلاك أدوات ومعايير وموازين يستخدمها الفرد عند الدراسة والبحث والتحليل وتلك الأدوات والمعايير هي أبعد ما يكون في غالب عما ينشر ويمت بصلة إلي ما يسمى الثقافة الإسلامية السائدة، إذ هي في مجملها -إلا ما ندر- عموميات لا تنضج فكرًا ولا تصهر أفرادًا ولا تُصلح واقعًا ولا تنضج كيانات.

 

إن الوعي السياسي الحقيقي لا ينبت إلا في ظل أرضية نضج وعيها الثقافي واستوى على سوقه بحيث يصير الوعي السياسي فرعًا عن الوعي الثقافي العام؛ وإفرازًا طبيعيًا له.

 

ثالثا: المقصود بـ: “الثقافي”

 

المثقف ليس هو الأكاديمي المتجرد أو الناقد المؤسس لمفاهيم وأطروحات، إذ أن كل هؤلاء يمثلون النخبة؛ كما أن الثقافة ليست هي مجموعة المعارف النظرية والعملية ولا هي طريقة وأسلوب أفراد المجتمع في التعبير عن قرائحهم في الآداب والفكر والفن إذ أن كل تلك التعريفات هي المعاني الضيقة للثقافة.

 

فالثقافة أساسًا: عقلية ونمط سلوك وطريقة في الحياة، بل هي كما عرفها مالك بن نبي “مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه؛ والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته”.

 

والثقافة ليست علمًا يتعلمه الإنسان بل هي محيط يحيط به؛ وإطار يتحرك داخله؛ وهي بمعناه الواسع: (منهج في الحياة) يطبع به مجتمع ما أفراده بحيث يمكن تمييز المجتمع الذي ينتمون إليه من سلوكهم، انظر إلى قول بن نبي عندما يقول: “إذا تصورنا فردين مختلفين في الوظيفة وفي الظروف الاجتماعية ولكنهما ينتميان لمجتمع واحد كطبيب إنجليزي وراع إنجليزي نجد أنهما يتميز سلوكهما إزاء مشكلات الحياة بتماثل معين في الرأي يتجلى فيما يسمى بـ “الثقافة الإنجليزية”. وبهذا تصبح الثقافة بحق: نظرية في السلوك أكثر مما هي نظرية في المعرفة.

 

رابعا: لماذا ضعف الثقافي؟

 

يقول الأستاذ جودت سعيد في كتابه القيم (حتى يغيروا ما بأنفسهم) عن شباب العالم الإسلامي “إن عندهم استعداد لبذل أنفسهم في سبيل الإسلام، ولكن قل أن تجد فيهم من يتقدم ليبذل سنين من عمره ليقضيها في دراسة جادة لينضج موضوعًا أو يصل إلى تجلية حقيقة”.

 

وذلك لأن التضحية بالنفس لا تتطلب أكثر من مجرد حماس دافق وفورة عاطفة، أما البحث والدراسة والتحليل فلا يمكن أن تتم في لحظة حماس أو وفرة عاطفة (أو فورتها)، وإنما لابد من جهد متواصل يحتاج لنوع من الوعي كوقود يجعل الاستمرار ممكنًا، ومن هنا نفهم تلك الوصية الخالدة “قليل دائم خير من كثير منقطع” وهذا يفسر لنا توقف انقطاع ما يتم العزم – في غمرة حماس – عليه من عمل دراسات فكرية أو أبحاث علمية تحتاج الصبر عليها لإنضاجها، فلا تستمر قليلاً حتى ينزل الملل ويفتر الحماس.

 

وأخيرًا:

 

إن الحركة الإسلامية التي ترفع لواء الإصلاح في مجتمعاتنا العربية والإسلامية عندما تتقدم ثقافيا فهي بذلك تطرح نفسها بديلاً حضاريًا وليس مجرد “مشروع سياسي” وإذا توجهت الحركة نحو مشروع ثقافي شامل صار التحرك السياسي أحد أبعاده، وذلك على العكس مما هو حادث، حيث الثقافة – إن وجدت – أحد أبعاد المشروع السياسي ومن ثم انعكس ذلك على لغة الخطاب وأجندة الحركة؛ وحينما يصير التوجه الثقافي والاجتماعي هو الأصل العام الضابط لخط السير ويكون التحرك السياسي الناضج أحد أبعاد هذا الأصل العام؛ سيتحرر خطاب الحركات الإسلامية من ضبابيته وعدم وضوحه وعجزه عن جذب وإقناع التيار الاجتماعي لحركة الجماهير -بصرف النظر عن تلك المكاسب الانتخابية الوقتية- ثم يتحول إلى خطاب يتسم بالوعي بسنن الله في الآفاق وفي الأنفس وفي الاجتماع والكون فيساير قوانين بناء الأمم والحضارات ولا يصادمها كما يغدو خطابًا واقعيًا لا يقفز على الواقع ضحية التهوين تارة والتهويل تارة أخرى.

 

والله أعلم.