المدقق في الساحة البحثية في هذه الأيام يجد نغمة متزايدة تدور حول إعادة قراءة الإسلام؛ لأنهم يرون أن هناك مشكلة في فهم السلف للإسلام، وهذه استراتيجية غربية تهدف إلى خلخلة الثوابت الإسلامية بالدعوة إلى إعادة قراءة النصوص الشرعية لتتوافق مع الأطروحات الغربية، وبطريقة مخالفة لفهم علماء الشريعة للنصوص. هؤلاء العلماء الأجلاء الذين يملكون كافة أدوات التعامل مع تلك النصوص، واستنباط الأحكام منها.

مع سعي الغرب لإضفاء الشرعية الإسلامية على الأهواء الغربية فتحدث البلبلة داخل المجتمعات الإسلامية، وتنتقل بذلك القضية محل النقاش من قضية ثابتة ومجمع عليها، إلى قضية خلافية يستند فيها على المخالف في التذرع بشرعية هوى الناظر، ويوجه العوام صوب بؤرة المخالف، تذرعاً بالشرعية المزيفة، وتتحول المسألة محل النقاش من معصية ومخالفة شرعية تستوجب الإنكار والنهي إلى مباح يرغب فيه ولا يأثم مرتكبه.

وهذه دائرة سرطانية شديدة الخطورة على الهوية الإسلامية، حيث يتم صناعتها بجوار الدائرة الشرعية الأصلية الثابتة بحنكة عالية وبتدبير ماكر وإنفاق سخي. والأطروحات الأممية توضح جليًا الهدف بعيد المدى الذي يصبون إليه، وهو تحريف الدين الإسلامي؛ ليكون وفق رؤيتهم هم؛ ومن أجل تحريف الإسلام يقول تقرير مؤسسة راند الأمريكية، والذي حمل عنوان “الإسلام المدني الديمقراطي”: “إن مسألة تعديل دين عالمي ليس بالأمر السهل، فإذا كانت بناء أمة مهمة خطيرة، فإن بناء الدين مسألة أكثر خطورة وتعقيداً منها”.

وعلى ذلك يحاول الغرب الضغط على الدول الإسلامية لإعادة قراءة الإسلام وفق النظرة الغربية للمدنية وحقوق الإنسان، وذلك تشكيكاً منه في أن الاختلافات بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية في بعض المسائل المتعلقة بالمدنية وحقوق الإنسان إنما يرجع إلى ما أطلق عليه الغرب “التشدد في التفسيرات”؛ وليس إلى اختلاف المنطلقات بين الإسلام والغرب.

واللافت أن الاستراتيجية التي أتت بها مؤسسة راند مطروحة من قديم في الغرب، ففي دراسة صادرة عن الأمم المتحدة عام 1968 م حملت عنوان “الأمم المتحدة وحقوق الإنسان” جاء فيها أن “السبب في مشكلة حقوق الإنسان في المجتمعات الإسلامية ليس في الإسلام ذاته، ولكن المشكلة في السياق الاجتماعي والسياسي للتأويلات، وهى بذلك مسألة عارضة وليست أصلاً في الإسلام”.

وتوضيحاً لمهام التحريف الذي يسعى إليه الغرب يقول الباحث الغربي ” موشي بوري” Moshi pouri ” إن العلماء والباحثين المسلمين يتعين عليهم أن ينظروا نظرة ناقدة ومتفحصة لتراث الإسلام، وذلك إذا ما أرادوا أن يؤسسوا -بناء على هذه النظرة- مجتمعاً يقوم على أساس نظام حقوق الإنسان القائمة والموجودة بالفعل”.

فعمود الاستراتيجية الغربية هنا يقوم على تصوير الأمر على أن الإشكالية عند المسلمين هي في فهم السلف الصالح وعلماء المسلمين للقرآن والسنة، فإذا ما أراد المسلمون مجتمعاً يقوم على المدنية وحقوق الإنسان، فعليهم أن يعيدوا تفسير القرآن الكريم والسنة المطهرة وفق قواعد المدنية وحقوق الإنسان برؤيتهما الغربية؛ لتكون لها المرجعية في تفسير النصوص الإسلامية، فإن حدث تعارض قدمت الرؤية الغربية للمدنية وحقوق الإنسان على فهم العلماء وتفسيراتهم.

ونجد الترجمة العملية لهذه الاستراتيجية الأمريكية من قبل مؤسسات التمويل الدولية فيما أشار إليه تقرير راند ” بناء شبكات مسلمة معتدلة 2007″ من أن ” مؤسسة آسيا الدولية تقوم بتطوير برنامج لمساعدة جهود العلماء المعتدلين في التنقيب في النصوص الإسلامية والسنة بحثاً عن تعاليم وأدلة قوية تدعم القيم الديمقراطية، والنتيجة هي مجموعة كتابات فقهية تؤيد الديمقراطية والتعددية والمساواة بين الجنسين، وهذه نصوص تعتبر أقوى ما قدم الفكر المسلم التحرري وهي مطلوبة بشدة على المستوى الدولي”.

يقول الباحث الأمريكي “أنجل راباسا” معد تقرير مؤسسة راند ” إننا لا نستطيع التدخل كبلد أجنبي غير مسلم لمواجهة أيديولوجية المتطرفين، على المسلمين القيام بهذه المهمة بأنفسهم، ولكن ما يمكن أن نقوم به هو تمهيد أرضية الملعب بتقوية المعتدلين”.!

ويضيف: ” لكي يتم عكس الميول المتطرفة في الإعلام المسلم، فمن المهم دعم البرامج التلفزيونية والإذاعية المحلية والمواقع الإعلام غير التقليدي”.

في 2004 أصدرت مؤسسة راند كتاباً حمل عنوان ” العالم المسلم بعد 11/9″ ومما يلفت النظر أن هذا الكتاب يصنع مساواة مفتعلة بين الإسلام “المعتدل” وبين “العلمانية، وفي ضوء ذلك يدعو الكتاب إلى مساعدة المسلمين “المعتدلين” و”الليبراليين” على توصيل أصواتهم إلى بقية المجتمعات المسلمة من خلال خلق شبكات ضخمة تتحدث بلسانهم وتعبر عن أفكارهم.

ويقول: ” إن الحرب من أجل الإسلام سوف تتطلب خلق جماعات ليبرالية بهدف إنقاذ الإسلام من خاطفيه، وإن إيجاد شبكة دولية يعتبر خطوة في غاية الأهمية؛ لأنها ستوفر منبراً أساسياً لتوصيل رسالة المعتدلين، وستوفر لهم قدرًا من الحماية، إلا أن المعتدلين ليس لديهم المصادر لخلق مثل هذه الشبكة الدولية”.

واستراتيجية الإسلام المعتدل لا تقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية فقط ولكنها تمتد إلى أوروبا، فقد أعلن رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير عن رصد مليوني دولار أمريكي لتطوير الدراسات الإسلامية بالجامعات البريطانية، وتشجيع ما وصفه بـ”الإسلام المعتدل” وجاء رصد بلير المليوني دولار خلال مؤتمر بجامعة كامبردج دُعي إليه عدد كبير من العلماء والمفكرين الإسلاميين وممثلي هيئات إسلامية توصف بالمعتدلة في بريطانيا.

وخلال حديثه بالمؤتمر طالب بلير الدعاة المسلمين بتوضيح “حقيقة الإسلام” للعالم، ووضعه في “سياقه الواسع”، وكيف أن جذوره موجودة في اليهودية والنصرانية وتطورت!!، كما طالبهم بتوضيح أن حقيقته بعيدة تماماً عن “ما يقوم به المتشددون من عنف وتخريب”.

وحاول بلير أن يوصل للعلماء والأساتذة المسلمين الحضور أن غالبية المسلمين في بريطانيا يريدون أن يكونوا “مواطنين مخلصين لبريطانيا”، وأن قلة من “المتشددين” هم الذين يرفضون ذلك. كما طالب بلير كافة مسلمي المجتمع البريطاني بالاستماع إلى علماء المسلمين المعتدلين وعدم الإصغاء إلى من وصفهم بالمتشددين”.

من هنا فعلينا أن ننظر للمشروعات والمؤتمرات البحثية – وهي كثيرة في هذه الأيام- والتي تسعى لإعادة قراءة الإسلام وتفسير النصوص الشرعية بطريقة مختلفة عن فهم العلماء والسلف الصالح ضمن سياقها الاستراتيجي في محاولات خلخلة أمريكا والغرب للثوابت الإسلامية الراسخة.

————-

من كتاب: “التمويل الغربي وشراء الفكر في العالم العربي” للباحث الهيثم زعفان؛ من إصدارات المركز العربي للدراسات الإنسانية بالتعاون مع مجلة البيان.

من الهيثم زعفان

رئيس مركز الاستقامة للدراسات الاستراتيجية