كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن رغبة بعض منسوبي الدعوة الإسلامية في خوض حقل “التمثيل الدرامي” اجتهادً وظناً منهم بأن هذا الحقل قد يحقق بعض المكاسب للدعوة الإسلامية، ومن ثم نشر الإسلام بين غير المسلمين، فضلاً عن تثبيت تعاليمه في نفوس المسلمين، وتقريبهم من فخر حضارتهم الإسلامية عبر التاريخ. وذلك عبر آلية إعلامية معروفة عالمياً، وتستخدم في تحقيق الأهداف العقدية والأيدولوجية لكثير من المتربصين بالأمة الإسلامية، سواء كانت تلك الآلية ممثلة فيما يعرف بـ«السينما» وما تحويه من أفلام سينمائية، أو ما يعرف بــ«المسلسلات والمسرحيات» بما تحويه من أعمال درامية

فهل هناك إشكالات قد تصاحب هذا التوجه الدعوي الجديد صوب آلية «السينما» وصناعتها؟.

وهل هذا التوجه «الوليد» يمكن أن يأتي بانعكاسات سلبية على الدعوة الإسلامية؛ رغم نبل المقاصد؟.

وإذا تحدث البعض عن توظيف تلك الآلية «التمثيلية» لصالح الدعوة الإسلامية؛ فهل هناك حدود وسقف لهذا التوظيف؟. وإن كان فما هي تلك الحدود وما هي طبيعتها؟.

تساؤلات أولية سنحاول الاقتراب من معالجتها عبر تناولنا للقضية بشيء من التحليل، وذلك عبر عدة وقفات؛ الأولى اصطلاحية تسعى إلى تفكيك المصطلح؛ والثانية تأصيلية تسعى إلى الاقتراب من الإشكاليات الشرعية والتأصيلية المقترنة بالمصطلح، والثالثة تطبيقية تحاول الاقتراب من الإشكاليات المقترنة بالتطبيقات العملية والفنية للمصطلح.

وقفات اصطلاحية….. تفكيك مصطلح «السينما الإسلامية»:

ابتداءً لابد من تفكيك هذا المصطلح «السينما الإسلامية»، وذلك حتى نستطيع الحكم على قبوله من عدمه. فهذا المصطلح يتكون من كلمتين «السينما» و«اﻹسلامية»؛ فاللفظة اﻷولى وهي «السينما» تعبر عن وسيلة إعلامية تنقل محتوى درامي يعكس واقعاً ثقافياً معيناً؛ ونظراً لنشأة مصطلح «السينما» وتعبئته في أجواء غربية عقدية وانحلالية، فقد اصطدم بمضمونه الفاسد في معظمه مع ثقافتنا وشريعتنا وهويتنا الإسلامية الراسخة؛ وصارت الصورة الذهنية للكلمة تحمل تصوراً متحفظاً عليه لدى كثير من الدوائر المحافظة في مجتمعاتنا اﻹسلامية.

وبالتالي فنحن أمام مصطلح «السينما» لا يحظى بدرجة متقدمة من السمعة الحسنة؛ بل يقع في معظمه داخل دائرة السمعة السيئة.

الشق الثاني من المصطلح الرئيسي وهو لفظة «اﻹسلامية» وهي لفظة عقدية تعكس هوية دينية، وعاؤها الدين اﻹسلامي، بما فيه من ضوابط وأوامر ونواهي تضبط مسار الكلمات المتشابكة معها.

وكأن لسان الحال يقول: نحن نريد أن نقوم بعملية «أسلمة» لتلك الوسيلة اﻹعلامية المشوهة؛ ونجعلها ذات هوية إسلامية تميزها عن مثيلتها اﻷخرى، حال استخدام لفظة «السينما» بمفردها.

ومن هنا يكون الحكم والتساؤل في ذات الوقت:

هل نحن أمام بناء مصطلح «إسلامي إعلامي» جديد؟. أم أننا نحاول أن نقوم بعملية غسيل لمصطلح قديم مشوه؟.

إذا قلت أنك تبني مصطلحاً جديداً يعكس هويتك الإسلامية؛ فقد حملت نفسك تبعات المصطلح الغربي، وصورته الذهنية الفاسدة في المجتمعات المسلمة. وفي هذه الحالة فإن عليك البحث عن اصطلاح جديد بالكلية، يولد من جديد ويكون بمثابة قاطرة إعلامية يكون لها الغلبة المستقبلية حال التميز والتفرد.

أما إذا قلت أنك تحاول أن تعدل مسار المشوه؛ فقد ظلمت هويتك النقية، وقرنتها بثياب فاسد، من شأنه أن يحدث التباسات عديدة لدى المتلقي. وإذا فشلت في مهمتك الفنية فستكون التبعة كبيرة؛ وإذا نجحت فقد قيدت نفسك حينها في مسار عقدي لن يسمح لك بالتحرك المرن، في القطاعات المتعددة.

فمثلاً إذا أرادت إحدى المؤسسات الإعلامية إنتاج فيلماً سينمائياً عن نجاح عالم من العلماء في مجال الطب على سبيل المثال، وتمت معالجة الفيلم بطريقة هادفة تسعى إلى تحفيز التفوق العلمي في أمتنا؛ فأيهما أوقع في تصنيف الفيلم:

أن يدخل تحت مسمى «الهادف»؛ أم تحت مسمى «اﻹسلامي»؟.

بتصوري أن التجربة جديدة والوسط الإسلامي فقير في أدوات تميزها، ومخاطر اﻹخفاق سقفها أعلى من توقعات النجاح المتفرد، وهذا بدوره سينعكس على بناء المصطلح وتوظيفه، لذا فإن اختيار المصطلح بحاجة إلى مزيد من المراجعة والضبط وتدبر المآلات. هذا من الناحية الاصطلاحية.

وقفات تأصيلية:

الضابط الرئيسي في هذا الموضوع «الفني الشائك» هو وضعه على طاولة التشريح «الشرعي»، وذلك لبحث كافة اﻹشكاليات الشرعية المصاحبة لعملية «التمثيل» والتي منها:

• المرأة ودخولها معترك التمثيل، وتحميل الدعوة الإسلامية مسئولية وتداعيات ذلك الدخول؛ من فتنة واختلاط، وتلبيس على اصطلاحات شرعية من قبيل الأجنبي، الخلوة، إطلاق البصر، واللباس الشرعي، وغيرها.

•• تجسيد اﻷنبياء والصحابة من قبل الممثلين، واﻷحكام الشرعية المصاحبة لحرمة ذلك التجسيد.

• الكذب في التمثيل؛ وأحكامه، وضوابطه وحدوده.

•• الزواج والطلاق والقسم والبيع والشراء؛ ووقوعهم من عدمه في حالات التمثيل.

• الموسيقى والغناء وإشكالياتهما الشرعية .

• وغيرها من الإشكالات الشرعية المصاحبة للتمثيل السينمائي والدرامي.

إن هذه المرحلة التأصيلية بحاجة لتشكيل لجنة متخصصة ذات بصيرة وعمق، على أن تضم هذه اللجنة مجموعة من علماء الشريعة في الفروع المتعددة، ومجموعة أخرى من المتخصصين والمهتمين بميدان توظيف الإعلام في خدمة الدعوة الإسلامية. على أن تعقد هذه اللجنة سلسلة من جلسات العصف الذهني لدراسة هذه القضية شرعياً بعيداً عن أية مؤثرات خارجية، لتخرج بنتائج توجيهية لمن يريد اقتحام هذا المجال من ذوي الهوية اﻹسلامية.

وقفات تطبيقية.

ونعني بها تناول الإشكاليات العملية المصاحبة لتوظيف «التمثيل» في خدمة الدعوة الإسلامية؛ وهذه الوقفات لها بعدين؛ اﻷول فني، واﻵخر مذهبي.

أولاً… البعد الفني:

ويتعلق بكافة المعينات الفنية المؤدية لنجاح العمل الدرامي؛ وهذا البعد الفني عماده ثلاثة عناصر: «المال؛ البشر؛ التحديث».

1- المال:

وهو يعكس الجاهزية لشراء وتوفير كافة اﻹمكانيات اللازمة لنجاح العمل؛ وهذا العنصر تصاحبه عدة إشكاليات معقدة منها:

• هل لدي المقتنعين بهذا الميدان الخطة المالية الكافية لتغطية نفقات التمثيل الباهظة؟.

• هل هناك من المحسنين من لديه القناعة أن يقوم بوقف جزء من أمواله لأجل “صناعة السينما”؟ وهل هذا النوع من الأوقاف جائز شرعاً؟.

• هل سيتم استقطاع أجزاء من أموال التبرعات والصدقات والمساهمات الخيرية لتخصص لصناعة تلك الأفلام والمسلسلات؟،

وهل هذا الاستقطاع جائز شرعاً؟، وما هي الأسس الشرعية التي قد تسوغ لتبرير مثل هذه الاستقطاعات المالية؟.

• ماذا لو سدت الأبواب أمام الاحتساب المالي الدعوي؟

هل سيتم التعامل مع الأمر على أنه نوع من الاستثمار المالي «النظيف» إن صح التعبير؟

ويتم في ضوء ذلك دعوة أصحاب رؤوس الأموال للاستثمار في هذا الميدان؟

فهل متوفر الخطط المالية المقنعة بالربحية الجاذبة لرأس المال «الجبان»؟

وإذا سلمنا بنجاح الإقناع الاستثماري؛ فكيف سيكون للضوابط الشرعية سلطاناً حينها على «المستثمر النظيف»

خاصة إذا كانت لديه بعض القناعات والآراء المخالفة للضوابط الشرعية المتفق عليها؟.

تساؤلات نأمل تأملها جيداً؛ لأن المال في “صناعة السينما” مثل الأكسجين للجهاز التنفسي في الإنسان.

2- البشر:

وهو يعبر عن القدرة على توفير كافة الكوادر البشرية الماهرة واللازمة لنجاح العمل التمثيلي؛ فهل هذا التحدي متوفر في صفوف الدعوة الإسلامية؟.

إن اﻹشكالية المعقدة التي ستصاحب رواد هذا الاتجاه هي إشكالية «الممثلين»،

فإذا تم الاعتماد على اﻷطقم التمثيلية «المتحررة» القائمة والاستعانة بها في ميدان صناعة السينما لخدمة الدعوة الإسلامية،

فسيتم الاصطدام بعدة مشكلات، أهمها:

• ازدواجية الممثل وانعكاس فساده وانحلاله في أعماله السابقة واللاحقة على الدور القائم، وتأثير ذلك على درجة اﻹقناع والاقتداء في اﻷدوار الجديدة الهادفة.

• اﻷجور العالية، والنفقات الباهظة المصاحبة لعملية الإعداد والتصوير.

3- التحديث:

وهو يعبر عن القدرة على مواكبة كافة التطورات المتسارعة والمصاحبة لصناعة السينما العالمية؛

فهل هذا النوع من التحديث متوفر في الدوائر الإعلامية ذات الصبغة الإسلامية؟ وهل الغطاء المالي اللازم لعملية التحديث متوفر؟.

ثانياً… البعد المذهبي

ويقصد بالبعد المذهبي ذلك المحتوى الدعوي والعقدي والهادف للأفلام والدراما؛ وهذا البعد بحاجة لحرفية عالية في كتابة السيناريو،

من حيث صدق معلوماته ورواياته التاريخية، ومدى التزام السيناريو بالضوابط الشرعية، واﻷحكام الفقهية،

فهل يضمن دعاة هذا التوجه الإعلامي الجديد انضباط السيناريوهات على طول الخط؟.

إن موضوع توظيف «التمثيل» لخدمة الدعوة الإسلامية موضوع بكر وشائك للغاية، وبحاجة لبلورة شديدة التعمق، ﻷنه شديد الحساسية،

وقد يفتح الباب دون أن ندري للعديد من الانحرافات العقدية، التي قد تكون أشد خطورة من الانحلالات الأخلاقية.

وفي النهاية ينبغي تسكين موضوع السينما هذا في حجمه الحقيقي من حيث كونه وسيلة لنشر الدعوة اﻹسلامية أو تصحيح ومدافعة الشبهات الغربية حول اﻹسلام وقادة المسلمين.

وهذا التسكين الحقيقي من شأنه أن يجعل التعامل مع موضوع توظيف التمثيل لخدمة الدعوة الإسلامية أكثر تروياً وتدبراً،

وذلك حتى لا يأتي اﻷمر بنتائج عكسية، وحتى لا يكون على حساب وسائل دعوية أخرى، قد تؤتي بثمرات دعوية ممتدة،

إذا ما نالت من الاهتمام واﻹمكانيات والمخصصات مثل ما ستنال السينما والدراما.

من الهيثم زعفان

رئيس مركز الاستقامة للدراسات الاستراتيجية