.. جئتُ من رحم الأحزان يا لغتي أقبِّل الأرض والأبواب والشُّهُب، يا لغةً أسِفت لذهابها القلوب ودمعت لفراقها العيون؛ ما عسانا نقولُ وأنتِ تتقهقرين في دياركِ غير مأسوفٍ عليكِ؟ ما أشقاها الألسنة وهي تترجل عن صهوة عروبتها تتمايل تائهةً تبحث عن صداها بين جبال العولمة، كيف بكِ لغتي تتقمَّصين ثياباً غير ثيابكِ وترتدين في زمن مكهربٍ ألفاظاً وعبارات لا تنبئُ عن حقائق صُوَرِكِ ومعانيك؟

إننا تائهون حبيبتي في وديان الخزعبلات نتراشق بغزلٍ غريب الوجه واللسان، نتصارع في حلباتِ صنعتها أيادٍ ملوثةٍ فتباعدْنا بعدما كنا قريبين من بعض.


ما بالنا صرنا قاب قوسين أو أدنى من الفَناء في غير حضرتك؟ أتُرانا ذُبِحنا من الوريد إلى الوريد أم صُعِقنا بتيار خطيئتنا؟ لماذا أضحينا نتباكى عند أمسنا ونأبى أن نفارق حاضرنا؟
لغتي .. أما آن لفرسان البلاغة وأرباب الفصاحة أن يعودوا من زمنهم ويستيقظوا من سباتهم فينظروا حال أهلك كيف أهلكتهم سنون الركاكة وزمن عبودية الحرف ، كيف بهم يتخاصمون في بلاط العجم برطانة لم يرثوها عن أبٍ ولا جدٍّ، ويسخر منهم القاصي والداني فيرجعون إلى الوراء كأن لم يكونوا شيئاً مذكورا.

ألم يكن لرجالكِ الشهامى وفتيانك الأشاوس باعٌ في الحروب والمناسبات ، فكانوا يضعون تيجان النخوة والعظمة مرصَّعة بجواهر الحروف ولآلئ الكلمات؟ .. عذراً لغتي إن كنا أسأنا الأدب في حضرتِك، وانتقمنا من زخارفك وفسيفساء روائع الوصف والفخر والمدح، عذراً إن تجرَّأنا وتكلمنا بلسان لم يرعانا ولا ضمتنا قوافيه، عذراً إن مسختْنا عصبيتُنا وقوميتُنا في زمن الهوان والفجور..

لقد تطاولنا يا معذبة الفؤاد على أرحام البناء والإعراب وصرنا نلهث وراء بقايا كلمات ليست كالكلمات، صرنا نترحم على ذواتنا بأدوات غيرنا في إكراهٍ منا، نتجرَّع كؤوس المرارة ولا ندري متى الوصول إلى برِّ الأمان.
ما بالها معاجم المعاني والألفاظ والمعرب والدخيل والأمثال والمفردات لم تعد تنجينا من عضات الزمن الهجين الذي نحياه والقلوب بلغت الحناجر؟ ما بالها متون اللغة لم تعد تطربنا وتسقينا من حفاوة الزمن الجميل؟ ألهذه الدرجة صرنا أيادي سبأ مترامين حول مستنقعات الكلمات العابرة؟

ما عسانا نقول والمتنبي في حضرة سيف الدولة يبكي ذا الزمان أُهَيْلَهُ؟ ما عسانا نقول وأبو العلاء نَوْحُ باكيه وترنُّم شاديه مصلوبان اليوم تحت ملته واعتقاده؟ ما ترانا فاعلون والفرزدق يصيح فينا بآبائه أن نجيء بمثلهم فهل نستطيع ؟ ما ترانا فاعلون وحياءُ جرير ما هاجه استعبارٌ في زمننا هذا؟ لِمَ لا يعاتبنا قيس ونحن لازلنا نهيم بأقطار بلاده وعرضها وما لنا إلى ليلانا الغداة طريق؟ أين يا خنساءُ منا رفيع العماد طويل النجاد وقوم صاحبة الجلالة مدفونون لم يظهر لهم أثر ولم تُوقد لهم نار؟ أتُراك يا أبا تمام صفائحُكَ البيض تُنجينا من صحائف سُودٍ طوَّقتنا وملأت أنفسنا شكاً وريبة؟ ..

أين أنت يا جاحظ لتشهد أن بيانك وتبيينك لم يعد له بيان في هذا الزمن؟ أين تُراك تقيم يا بن جني وأنت تنافح عن عربية العرب في خصائصك وسرِّ إعرابك؟ وأنت يا فراهيدي ما شأن عروضك الذي أبهرت به العالم ولم يعد يبهر فينا حلاوة القوافي؟ أم تُراك أنت أيضاً غرقت في بحورك كما غرقنا فيها نحن اليتامى ودققنا بيننا عطر منشم؟ وأنت يا بن منظور ما بال لسانك العربي لم يعد يحرِّك فينا ساكناً فأبينا أن نغوص في متنه ونتقلب بين صفحاته؟ ما بال اللغة التي قدَّمتها لنا على طبقٍ من ذهبٍ هجرناها وأبدلناه ذاك الذهب بأبخس الأثمان؟ وأنت يا أمير المؤمنين في نحوك ما بها “حتَّى” لا ترفع ولا تنصب ولا تجر عندنا ؟ ما بالها ترفعنا خرافات رضعناها من ثدي أمسنا وتنصبنا إنَّ وصُلبانها خلف مقامع من حديد لتشهر في وجوهنا سيف التخلي عن “الضاد” وتجرُّنا العصبيات ونحن ساهرون في نافذة الحنين نقشِّر التفاح بالسكين!

إننا في زمن الانكسار نبحث عن وميض يشع لنا كي نعثر على خاتم وجودنا وسرِّ بقائنا ، فما بالها الكلمات اليوم تمحو ذكراها الكلمات ولا تعرف أين تتجه؟ ما بالها الألف والباء العربية تتأرجح بين المطرقة والسندان؟ ما بالها التاء والثاء تتحامقان ولا تعرف كل منها أختها؟ ما بالها الجيم والحاء والخاء فقدت عذريتها واسترجعتها مُكرَهَة دون أن ترقب في أهلها إلًّا ولا ذمَّة؟ ما بالها الدال والذال كُسِرت أسنانهما وفُضَّ فوهما ولا أحد من أهلها نبس ببنت شفة؟ ..

لِمَ الرَّاءُ والزَّايُ تتزاوران خفية من قومهما وعيون الغدر لا يهدأ لها بال حتى تمحي أثرهما؟ لِمَ السين والشين في ذا الزمان تعلوهما غَبَرَةٌ قَتَرَة وسماء العاشقين مكفهرة تنظر إلى الأحبة من طرفٍ خفي؟ وعلامَ الصاد والضاد يا صاحبة الجلالة ضدَّان لا يلتقيان بين شرق شمسك وغربها؟ وعلامَ الطاء والظاء تنفخان في أَسِّ العروبة ولا شيء غير الرماد يظهر بين الأثافي؟

ألهذا الحدِّ صارت العين والغين تتناطحان ويسب بعضها بعضاً وتأبى أن تنظر في وجه أختها ؟ ثم ما بها الفاء والقاف تقفان حائرتيْن عند شاطئ بلاغة العرب وتعجزان عن نظم أبياتٍ لا أبواب لها ؛ بل هراء في هراء ؟ ثم ما بالها الكاف واللام دبَّ السَّأمُ إلى جسميهما وما عادت هوادج العربية تحمل فوقها خرائد ناصعات الجباه ، مصقولة الترائب ؟ وعلامَ الميم والنون تسبحان ضد تيار الأوطان وتتناحران على معابد الرهبان والصلبان ؟ والهاء والواو والياء في مؤخرة الرَّكْبِ تصرخن : يا أرض الخرافات احبلي لعلَّ عربياً ثانياً سوف يظهر ؟
من كثرة الهزائم يا لغتي خُرِست ألسنة الأبناء وصارت أعجمية تضرب عرض الحائط قوانين البناء والإعراب ، فيستيقظ سيبويه من قبره فزعاً صائحاً : ليس أبا الدرداء .. ليس أبا الدرداء .. ! من شدة اللامبالاة عاد الأبناء والأحفاد يتعجبون من رفع الفاعل ونصب المفعول فيُصعق الكسائي وينسلخ من قبره غضبانَ أسفاً وهو يقول : طالق طالق طالق ..

إنَّ بناتك وأبنائك أصابتهم لوثة من لوثات العولمة فصاروا في منازلهم جاثمين كأن على رؤوسهم الطير يضربون أكباد الحواسيب طلباً لماكياج أو تسريحة شعر بلغة فيسبوكية تشْتَمُّ منها روائح الضياع في بحر اللحون ! فينهض نزار من تابوته حزينا وهو يلهج : متى يعلنون وفاة العرب؟

قصص العشق والغرام والحرب والسلم تتوارى خلف هواتف شقية بين أبنائك وبناتك تبهلُ بعضها بلغة غثة حروفها تحاول فرض نفسها لكنها ترجع مكرَهة تجرُّ هموم الأسى ، فتضع أيادي الأبناء والأحفاد عليها تزاويق من لهجاتٍ ورثناها عن الاستدمار ، فيُبهَتُ لرسمها ابن مقلة ويقشعر لها بدن أحمد الكامل.

ليتكِ يا صاحبة الجلالة تجسِّين نبض قلوبنا لتعلمي عدد الحسْرات التي تأكلنا وتنهش من عظمنا ونحن على أبواب نفائسك وكنوزك لا نستطيع فتحها ، فما بالها تلك الأبواب لم تعد تُفتح؟ ما بالها أوراق الآباء لم تعد تُتصفَّح، وأقلام الأبناء انزوت وبان عُوَّارها؟ ما بها الكلمات انكمشت ولم تعد توحي بما في الضمائر والألباب؟ ما شأنها الجُمل أضحت شبه عارية من الدلالة؟ وما خطبها البلاغة أضحت في متاحف الراحلين ولم تجد من يزورها؟ ..

آهٍ .. آهٍ يا لغتي ! .. كم مبحرٍ وهموم الحرف تسكنه عاد حيران لا يفقه مما يجري في زمن البوار شيئاً، كم مُدلِجٍ وقائلٍ بظلِّ أشجاركِ عاد حَرُّ تفاهة الكلام ولغو الخطاب يوخز جسمه، كم لبيبٍ وحكيمٍ صار يشكو إلى ربِّه أوصاب دنياه مما يلاقي ويكابد من تعنُّت بني قومه هَجْر الصواب والارتماء تحت عجاج الأخطاء، والتمرُّد على قوانين الكتابة، شامخاً بأنفه في جوِّ الأنانية لا يدري أقومٌ أخلّاؤُه أم نساءُ؟

سامحينا يا صاحبة الجلالة فقد أسأنا الأدب في حضرتك، فما نحن سوى بقايا عرب قتلتنا الأوجاعُ وصادرت نخوتنا ألسنة الببغاوات، سامحينا فإن أسِنَّة الروم والفرس تنهى وتأمر، سامحينا فإننا لا نزال نتخبَّط باحثين عن هوِّيتنا وانتمائنا، سامحينا فلازلنا نشرب نخب البحث عن وجودنا، سامحينا فمازالت فزَّاعات الحداثة تُرهِبنا وتحذرنا من خُطَبِكِ وقوافيك وأرجازك، سامحينا فلازلنا نتسابق نحو أضرحة الألسنة الموات نتمسَّح بأركانها علَّ عِلجاً يرضى عنا أو قسِّيساً يباركنا، سامحينا فمازلنا في ريبنا نتردَّدُ ونتساءلُ : هل نحنُ عرب؟!
————–
د. الطيب عطاوي