بداية.. أريد أن أنوه على نقطة مهمة وهي: أننا في هذا الحوار سوف ننحو بالحديث عن تاريخ اللغة العربية وفضائلها وتفوقها على سائر لغات العالم، فأنا أعتقد أن الحديث في هذا الشأن مبتذل جدا ولا يليق بنا المتعلمين أن نتحدث عن لغتنا بهذا الشكل المثالي غير المنطقي، وأرجو ألا يعتبر رأيي الصريح هذا انتقاصا من لغتنا العربية العزيزة، ولكن مثل هذه الخطابات لا يمكن أن تضيف شيئا لإعادة اللغة العربية إلى مكانتها وأهميتها، فادعاءات أن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة في العالم التي تحوي على حرف الضاد هو ادعاء باطل وغير صحيح فهناك أكثر من 7000 الف لغة في العالم تم حصرها حتى الان يحتوي كثير منها على حرف الضاد وغيره من الاحرف والأصوات غير الموجودة في العربية، ثم ما هي الميزة المرجوة من وجود حرف الضاد في اللغة!!.
وادعاء أن اللغة العربية هي أصل لغات العالم هو أيضا ادعاء غير منطقي فالدارسون لعلم اللسانيات والمعاجم يدركون أن اللغات هي نتاج تفاعل وتطور الإنسان مع بيئته وتطور أنماط تفكيره عبر سلسلة طويلة من الأجيال المتعاقبة منذ ملايين السنين، إن الرسومات والأحافير والكتابات التي نجدها في الكهوف وعلى الصخور سواء كانت في عمان أو غيرها من الدول تدل جميعا على أن اللغات تطورت عن سلسلة مترابطة ومن خلال لغات أخرى قديمة، يقول الفيلسوف الاغريقي ديمقريطس: أن اللغة هي ظاهرة اجتماعية يتفق عليها البشر ويصطلحون عليها وتتطور بتطورهم، وهي ليست سماوية.
كما خلص عالم اللسانيات ليونارد بلومفيلد الذي يتعبر احد علماء اللغة وأهم الرواد في اللغويات البنوية أن العامل المشترك الذي اتفق عليه جميع خبراء اللسانيات قديما وحديثا حول أصل اللغة هو (الصوت)، فاللغة عندهم هي الأصوات والخطاب الصادر عن لسان الإنسان.
لذلك بدلا من تعليم مجتمعنا وأبنائنا أن اللغة العربية هي بداية كل اللغات ونهاية كل اللغات وأنها نزلت من فوق سبع سموات فإن علينا أن نعلمهم أن العلوم واللغات هي نتاج جهد أجدادنا البشر الذي لجؤوا عبر أجيال متتابعة إلى اختراع حروف وأصوات وكلمات اصطلحوا عليها ليمكنهم من خلالها التفاهم والتعايش بسهولة ويسر، فاللغة هي وعاء التعايش والتفاهم بين الكائنات البشرية، والعلم الذي يدرس هذا الموضوع يسمى بعلم فقه اللغة أو علم اللسانيات.
كذلك لن يكون موضوعنا هذا عن لماذا تخلينا عن استخدام اللغة العربية الفصحى واستبدلناها بلغات عامية، أو لماذا أصبح الكثيرون يقعون في أخطاء لغوية فادحة أثناء كتاباتهم أو حديثهم أو غير ذلك، إن الموضوع هو أخطر من ذلك وأعمق.
إنني أريد أن أدق ناقوس الخطر في هذا الحوار على حالة الخذلان والانكسار والغربة التي يعانيها أبناء اللغة العربية تجاه لغتهم.
فالحال الآن وأنتم أعلم بها هي هكذا:
إننا نحرص على أن نعلم أبناءنا وأطفالنا لغة أجنبية أخرى غير اللغة العربية كالإنجليزية، بل ونحرص على التحدث بها واستخدامها في المنزل كلغة مساوية للغة العربية أو أحيانا لغة أولى.
هناك تعارف متفق عليه من الجميع مؤسسات أو أفرادا أن التعليم باللغة الاجنبية ولا سيما الإنجليزية هو أفضل من التعليم باللغة العربية، وأن الإنسان المتحدث بلغة إنجليزية أو فرنسية أو غيرها من اللغات الغربية هو أفضل وأكبر شأنا من المتحدث باللغة العربية.
إنه من الصعب جدا على الإنسان أن يلتحق بوظيفة في إحدى المؤسسات الخاصة الكبيرة دون أن يكون ملمًّا باللغة الإنجليزية، إنكم تستطيعون التأكد من ذلك من صفحة إعلانات الوظائف المنشورة في الصحف اليومية.
إنك إن لم يكن لديك حظ ولو بسيط من اللغة الإنجليزية فإنك لن تستطيع التأقلم والتعايش في معظم عواصم ومدن الدول الخليجية من مسقط وحتى الكويت. إن الإحلال السكاني بالأجانب وعدم أقلمة العمالة الوافدة هو أحد مسببات ذلك.
يقول أحد المسؤولين عن سبب التعامل باللغة الإنجليزية في الشركات العمانية: لأن المعاملات المالية باللغة الاجنبية فتتبعها جميع المعاملات الأخرى، فإذا أردت أن تكون اللغة العربية هي اللغة المستخدمة فعليك بتعريب المعاملات أولا وتعمين الوظائف.
ويقول مسؤول آخر: إن السبب وراء ذلك هو وجود الجاليات الأجنبية في البنوك والشركات والصيدليات، تصور حتى المراسلات الرسمية في بعض الأقسام الحكومية تحولت إلى اللغة الإنجليزية، بينما الدول العربية الأخرى مثل العراق وسوريا ومصر تستخدم اللغة العربية حتى الآن في جميع معاملاتها الخاصة والحكومية.
فإن كان الحال كذلك وكانت أغلب معاملتنا وحياتنا وثقافتنا اليومية تتحول تدريجيا من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية عندها يمكن أن نقول على اللغة العربية السلام.
وإن أردنا أن نذهب الى أبعد من ذلك فإننا سنجد أن المعاملات في الشركات وبعض المؤسسات الحكومية تتم باللغة الإنجليزية وليس باللغة العربية، كما أن الجامعات والكليات الحديثة تعتمد اللغة الإنجليزية لغة التعليم بدلا من العربية.
إن هذه البيئة الغريبة عن هويتنا ولغتنا لهي الخوف الأكبر الذي نواجهه في المنطقة ككل وليس في سلطنة عمان فحسب.
إن التحديات التي نواجهها كعرب اليوم خاصة في مجال التعليم إن التعليم أصبح الآن باللغة الإنجليزية في كثير من الجامعات خاصة في العلوم الحديثة كعلوم الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء وغيرها من العلوم التي نحتاجها من أجل مواكبة التطور العالمي الذي يصدر وينتج هذه العلوم باللغة الإنجليزية فحسب، ولكون العالم الان أصبح كالقرية الواحدة يربطه نظام واحد فإنه أصبح من الضروري أن تكون هناك لغة عامة يمكن من خلالها أن تتخاطب الشعوب بسهولة، لذلك كانت اللغة الانجليزية هي اللغة الأنسب لهذه المهمة، اللغة التي لا يمكن الوقوف في وجه انتشارها وتقدمها، حتى تلك الدول المتقدمة علميا وسياسيا واقتصاديا لم تستطع أن تجاري اللغة الإنجليزية فأصبحت اليوم تدرس المواد العلمية في جامعتها الانجليزية، لكن هل تعليمهم للغة الإنجليزية كان على حساب لغاتهم المحلية؟ بالطبع لا.
إن اللغة الانجليزية بالنسبة لهم هي لغة تدريس لبعض العلوم التي لا بد من تعليمها باللغة حتى يسهل الوصول الى شتى المعارف والبحوث دون أن يكون حاجز اللغة مانعا من ذلك، ودون أن يتخلوا عن لغتهم المحلية في تعاملاتهم ومخاطباتهم المحلية. فمثلا في ألمانيا يتم التدريس باللغة الالمانية لكن بإمكان الطالب أن يختار التعلم باللغة بالانجليزية، كما أنه في العمل لا يتم التعامل إلا باللغة الالمانية..
يقول صديقي ثانيسويس وهو متخصص في مجال الالكترونيات في مدينة ميونخ إن بيئة العمل أصبحت تتأثر الان باللغة الانجليزية؛ لأن أغلب المنتجات والبحوث الحديثة تأتي بالانجليزي وليس بالألمانية.. ، لهذا تجد اليوم كثيرين يتحدثون اللغة الانجليزية بجوار لغتهم الام.
إن الأسوأ الذي نواجهه اليوم في مجتمعنا إننا حقيقة لا نطور لغتنا العربية ونتركها حبيسة القواعد اللغوية النحوية التي يرى البعض أنها أضرت باللغة أكثر مما نفعتها فأصبح كل عربي اليوم يتحدث لغتين اللغة العربية الفصحى ولغته المحلية التي هي اللهجة، وأنا أعتبر أن بعض اللهجات العربية يمكن أن تعتبر فروعا لغوية عن اللغة الأم أو لغات مستقلة، لأنها أصبحت مستقلة بمصطلحاتها وأصواتها وأعرافها، فالعربي في الخليج العربي لا يمكنه أن يفهم العربي في المغرب العربي ولا العكس. وغيرها من البلدان مثل الصومال وموريتانيا وبعض المناطق الجبلية والصرواية في عمان والخليج العربي.
إن اللغة العربية بحاجة الى أن تتطور لتواكب العصر، كما أن على العرب أنفسهم أن يطوروا من أنفسهم حتى يكونوا في مصاف الدول المنتجة والمؤثرة في العالم، إن خريطة الوطن التي تربط بين الشرق والغرب هي أكبر خريطة في العالم وهناك المليارات من البشر يتحدثون اللغة العربية بفضل القران الكريم، لكن علميا لا تجد للغة العربية أي موطأ قدم، ذلك أن العرب تأخروا في مجال العلوم والمعرفة والتعليم والانتاج المعرفي.
————-
ملاحظة: هذه الورقة قدمها الكاتب في الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية 2018.