كم يكون حقيرًا جدا ذلك المعلم والأستاذ الذي يضطهد تلميذه لضغينة في نفسه، وعداوة يضمرها قلبه المظلم.
وبدلا من أن يعمل على الإنصاف فيباعد بين بغضه ومستقبل طالبه، إذا به يرى حقده الدنيء عقبة أمام هذا الطالب، عازما في إصرار أن يدمر طموحه ومستقبله.
ولكن المدهش والمثير بل والمزعج، أن يحدث مثل هذا الجحود في أروقة الجامعة الأزهرية، بل وفي معقل الدعوة وعرين الإسلام، في كلية أصول الدين قسم الدعوة والثقافة الإسلامية، فلازلت أتذكر وقتما كنت طالبا بها، كيف اضطهد وكيل الكلية طالبا في الدكتوراه، وعزم أن يدمر حياته ومستقبله، ولا يمنحه ما تهفو إليه غايته، ولولا أن قيض الله لهذا الطالب المكين، شيخنا الكبير الراحل فضيلة الدكتور (محمود عمارة) طيب الله ثراه، وبما كان له من قوة ونفوذ، ليدافع عن هذا الطالب ويطويه كما يقولون: تحت جناحه، لضاع الفتى ولم يحقق ما تطلع إليه.
لقد عجز وكيل الكلية الطاغية، ووقف عند حده أمام قدرة العالم الجليل، من أن ينال من طالبه، ليكون فريسة سائغة ينهشها ويقضم أشلاءها..
وبالمناسبة لقد صار هذا الطالب فيما بعد من كبار الدعاة والأساتذة الأكاديميين الذين يفخر بهم الأزهر، وله سفرياته الدعوية في الشرق والغرب، وله مؤلفاته التي لا يساويها فيها ذلك الوغد الذي كان يريد اغتياله.
شيء مقزز أن تضم البيئة الأزهرية التي تربت على قال الله وقال الرسول، مثل هذه النفوس الوضيعة التي تقودها أحقادها المظلمة، لتجور على خلق الله، وتحطم آمال الطلاب الواعدين.
ولكننا لا ننسى في ظلال هذه الصور البغيضة، صورة العالم البطل، الذي منع هذا الظلم وأوقف سعار الظالم، وأخمد بقامته عبث المتسلط، وهم الأماجد الذين يزهو بهم الأزهر، ويفخر بانتمائهم إليه.
ورحل سيدنا الدكتور (محمود عمارة) وبقي أثره واسمه ونبله ونصرته للمظلوم.. فما أجله من عالم، وما أفخمه من داعية.
ما فعله الدكتور عمارة كان موقفا نبيلا، مازال إلى اليوم يتحاكى به هذا الطالب ويذكره، لاينساه أبدا وفاء منه وإخلاصا مترحما على أستاذه الذي أنقذه من مخالب الأسد البغيض.
والأزهر الشريف لا يعدم نبلاءه، ففي ظل هذه المثل الشوهاء، نرى في سيرة كثير من شيوخه ما يدعو للإكبار والسمو، وإليك نموذجا من نبلائه، فلقد كانت هناك عداوة شهيرة بين الشيخ الإمام محمد عبده، والشيخ ابراهيم الظواهري، شيخ المعهد الأحمدي، الذي كان ممن يعارضون منهج الشيخ الاصلاحي، وكان كذلك من دعاة التصوف الكبار، والمعتقدين في السيد البدوي والأضرحة والاولياء، ومعروف أن الامام محمد عبده يعارض ذلك وينهى عن تلك السلوكيات، مما كان له أثره في النفور بين الرجلين.
فماذا حدث من مشاهد النبل التي تليق بإمام كبير طاهر النفس سليم الصدر، حتى أمام أعدائه؟
يُذكر أنه حين تقدم الطالب محمد الأحمدى نجل الشيخ إبراهيم الظواهرى لامتحان العالمية، وعرف أن الأستاذ الإمام سيرأس لجنة الامتحان، وقع في حيرة شديدة، فالطالب منسوب إلى اتجاه أبيه، والإمام ذو سطوة في السؤال ورد الجواب، والطالب كما يروى عن نفسه في مهب الريح، ولا شك أن الإمام لن يسمح بنجاحه.
ترى ماذا صنع الإمام مع تلميذه، والأمر أمره لأن أعضاء جميع اللجنة، يتركون له توجيه الأسئلة ومناقشة الردود، هل نكل به نكاية في أبية، وانتقاما من مخالفته له، وردا لعداوته لأفكاره؟
لقد تحدث الأستاذ الأكبر محمد الأحمدى الظواهري في مذكراته عن السياسة والأزهر؛ مفصلا ما جرى يوم امتحانه، فذكر أنه تهيب الموقف قبل أن يلج حجرة الامتحان، وكان من عادة الطلاب أن يبدءوا بتقبيل أبدى الأساتذة قبل الجلوس، فما كاد يلمس يد الأستاذ الإمام حتى نزعها منه، مكتفيا بلمس أصابعه، ثم فاجأه بأن قال له : لقد سماك والدك الأحمدى نسبة لأحمد البدوى، وسنرى ما سيكون من شأن هذا الرجل معك.
قال الشيخ الظواهرى: كان لهذه العبارة مصحوبة بخطف يده أثناء محاولة تقبيلها، أثر سيئ في نفسي، فاتقبض صدري، واسودت الدنيا في عيني، ولما طلب منى أن ابتدىء الكلام، تأخرت برهة، ثم تماسكت وأجبتُ بطريقة غير طريقة زملائي، إذا عمدت إلى جوهر الموضوع دون تعلق بالحواشي الزائدة، وأيقنتُ أنى حزت قبول الإمام، ولكن لم يظهر على وجهه ما يدل على سروره، فشق ذلك على نفسى وصممت أن أنتزع منه الإعجاب، فخطر لى أن أعاود الكلام مرة أخرى في الموضوع نفسه، فعندئذ قال الشيخ : لماذا تريد استئناف الكلام، لقد تكلمت كلاماً طيباً جيدًا، وعالجت البحث علاجاً رائعاً، والأحسن أن ننتقل إلى موضوع آخر، فكانت عبارة الإمام هذه كأنها البلسم الشافي، فاندفعت أجيب بالطريقة التي اخترتها فقال الشيخ: إن ترتيب بحوثك وطريقة العرض، مما يُعجب ويروق. وسأتخذ معك فى ترتيب الأبحاث طريقاً جديداً، وأخذ يقلب أوضاع المسائل، ويخرجُ من علم إلى علم، حتى طال النقاش بضع ساعات على غير المألوف، وحتّى أرهقت إرهاقاً جسمانياً وعقلياً، فطلبت في نفسى شربة ماء، ولكنى سكت مهابة للشيخ، ثم غلبني الظمأ من الشيخ أن يأمر لى بشربة ماء، فقال الشيخ: أنت تستحق (شربات لا ماء، فقد أحسنت كل الإحسان، وأرسل في طلب كوب كبير من (الخرنوب) لأشرب مع أعضاء اللجنة على حسابه، ثم قال: لقد فتح الله عليك يا أحمدى، والله إنك أعلم من أبيك، ولو كان عندى فوق الدرجة الأولى لأعطيتك إياها، فكانت عبارته هذه حديث الناس في الأزهر، وأصبحت من أسباب سعادتی !.
ما أجمل نفسه وما أسما روحه، بل ما أنبل ذاته وشخصه، تأتي بين يديه الفرصة لضرب خصمه في مقتل، لكنه يتعفف عن ذلك ويتسامى عن هذا الصغار، ولعله الموقف الذي لا يليق إلا بإمام مصلح كبير.
- حاتم سلامة يكتب: الشيخ الشعراوي مربيًا - يونيو 29, 2023
- حاتم سلامة يكتب: أنا عاوز أشوف أم الشعراوي - يونيو 26, 2023
- حاتم سلامة يكتب: إنهم يجهلون التاريخ الأدبي - يونيو 22, 2023