ابتداء أقول: إنني لا أقارن هنا بين شعبين أو وطنين، لأثبت أن أحدهما يعشق الدين، والآخر يمور ذوقه مع الفن، ولكنهما حالة واحدة لها صورتين اختلفت كل واحدة منهما عن الأخرى، وما نصيبي فيها إلا التسجيل والمقارنة، بعيدًا أي ذم هنا أو مدح هناك.

إنني أتحدث عن تأثير الفن والدين في قلوب الجماهير، وأيهما أبلغ سلطانا في النفوس، وأشد جذبًا للمهج والعقول.. وأضرب المثل بنموذجين كان لهما تأثير عظيم على العقول، ويشتركان في الجنسية والوطن، ولكنهما يختلفان في نوعية التأثير والمتأثرين.

نعم.. فقد كان كل منهما مصريا، لكن التأثير كان مختلف الجنسية.

في كتاب (لغز أم كلثوم) للكاتب والناقد الشهير رجاء النقاش يقول فيه: «في الساعة العاشرة ليلة أول كل يوم خميس في الشهر يحدث شيء غريب في الشرق الأوسط.. يهدأ الضجيج في شوارع القاهرة فجأة.. في الدار البيضاء التي تبعد 2500 ميل إلى الغرب، يكف الشيوخ عن لعب الطاولة في المقاهي.. وفي بغداد التي تبعد 800 ميل إلي الشرق يحدث نفس الشيء.. الكل أذهانهم. مشغولة بشيء آخر.. وبين هذين الحديث الجغرافيين على طول الصحراء وعرضها ياوى الأعراب إلي خيامهم.. الكل ينتظرون برنامجا معيناً يذيعه راديو القاهرة، مدة هذا البرنامج خمس ساعات، يذاع ثمان مرات في السنة ونجمته مطربة اسمها أم كلثوم»

هكذا كانت أم كلثوم وهكذا كان أثرها في وجدان الشعب ومزاج الجماهير.

ولعل هذا التفرد وهذا التميز الذي يرجع إلى هذه الموهبة الباهرة التي كان لها هذا التأثير القوي على أرواح الشعب وذوقه، مما اضطره أن يترك كل شيء في يديه، حتى تلك الساعات التي يستروح بها عن نفسه، ويأنس بها وقته، ويتسامر بها مع أصدقائه، يترك كل ذلك ويهرول ملبيا صوت هواه، منصتا لأم كلثوم.

وأمام هذا المشهد أقول:  لعلي لم أسمع بمثل هذه السلطة الطاغية على قلوب الجماهير ولم يُرو لي شيئا شبيها به، إلا ما ذكره لي سيدنا الكبير فضيلة مولانا الدكتور النبوي شعلان أمد الله في عمره وعمله حينما قال:

كنت أسافر مع الشيخ الغزالي رحمه الله حينما كنا مبتعثين للجزائر، فكان الشيخ يسافر معنا من مطار القاهرة، فيقف في الطابور بمطار مصر كفرد من الناس، يتحمل البهدلة ويعاني من الروتين ويتنقل على موظفي الجوازات هنا وهناك، ويُتم كافة الإجراءات بعد إرهاق شديد، ويركب الطائرة ونتجه جميعا إلى الجزائر.

وتهبط الطائرة في الجزائر، فإذا به يخاطب زملاءه في السفر فيقول لهم: هنا يُفارق كل حبيب حبيبه، فماذا يحدث بعد ذلك؟

ينزل الشيخ الغزالي من سلم الطائرة في الجزائر، فإذا بسيارة رئاسة الجمهورية الخاصة، تنتظره تحت سلم الطائرة لتُقله إلى مكان إقامته.

يحلف لي فضيلة الدكتور النبوي، أنه رأى في التلفزيون الجزائري رئيس الجمهورية وقتها الشاذلي بن جديد، وحينما جاء النادل بالقهوة يقوم الرئيس ويأخذها منه ويقدمها بنفسه للشيخ الغزالي.

بل يحلف لي: إنه رآه بعد الانتهاء من القهوة يقوم الرئيس بنفسه مرة أخرى ليأخذ منه الفنجان ليضعه على المنضدة.

ثم يروي وهو بيت القصيد: إنه في أحد الأيام في بدء وجوده بالجزائر نظر من شرفة حجرته بالفندق فوجد الشارع الرئيسي خالية تماما من المارة، فتعجب واندهش وأخذ يُسائل نفسه: ماذا جرى يا هل ترى؟ هل هناك انقلاب تم وفرض حالة من الطوارئ؟ وأخذ ذهني يموج في اليمين والشمال، وسرعان ما اتصلت بإدارة الفندق أسألهم وأستفسر عن حالة الشارع الفارغة المريبة.!

فرد علي مدير الفندق بقوله: يا أخي ألا تعلم هذا الوقت الذي يتحدث فيه الإمام الغزالي في التلفزيون.

إنها حالة فريدة لم نكن نعلمها أو نعرفها كمصريين عن الشيخ الغزالي، وقد قدر لمولانا النبوي أن يرويها ويسجلها، ليكون لها اليوم اعتبار في تسجيلي.

تُرى بعد كل هذا، وبين ما سجله رجاء النقاش ومولانا الدكتور النبوي، هل يمكن القول: إن مصر لا تقدر علماءها بينما تقدرهم الجزائر، أم أن الجزائر في تدينها أكثر من مصر التي قيل عن شعبها متدين بطبعه؟

لقد وجد الدين في مصر فهل احتل في قلوب أهلها ما احتله الدين في قلب أهل الجزائر؟

مع أن هذا الشيخ الأزهري المعمم الذي قبض على هوى قلوبهم، كان مصري النشأة والتعليم والإقامة.!

وهو الذي ذاق -المرمطة- في المطار القاهري، بينما عومل معاملة الكبار في مطار الجزائر

ولعلي أتساءل بصيغة أخرى فأقول: ترى لو خصص التلفزيون المصري في ذلك الوقت حديثا أسبوعيا للشيخ الغزالي، فهل كان المصريون يقابلونه بنفس الحفاوة التي لقوا وقابلوا بها حفلات أم كلثوم؟

قد يضرب أحدهم المثل بحديث الشيخ الشعراوي، ولكن هذا المثل لا يصح ضربه والمقارنة به، لأن الناس بعادتهم في ذلك التوقيت في البيوت ساعة الغداء والراحة بعد صلاة الجمعة، وطبيعي أن يقبلوا على مشاهدته وقت راحتهم، أما أن ينتزعهم الشيخ من ساعات مسامراتهم وأشغالهم كما فعل الغزالي في الجزائريين، وكما فعلت أم كلثوم في المصريين، فذلك لم يحدث للشيخ الشعراوي..

وأعتقد أن موعد حديثة لو كان في توقيت آخر، لما أقبل الناس عليه إقبالهم حوله لحظة الجمعة، لحظة الراحة والاستكانة في البيوت.