يرى نفسه قوي الإيمان، ولقوة إيمانه فهو يقرأ لجميع الأفكار فلا يهتز ولا يتردد، وإذا رآك تتغيظ وتحتد لانتشار الشبهات قال ببرود: هل الإسلام بهذه الهشاشة؟ هل إيمانك بهذا الضعف؟
لست أعرف أحدا ممن يتحدث بهذه الثقة يقيم دينه، بل كل من عرفتهم من أصحاب هذه اللهجة رأيت في حياته ما يناقض قوة الإيمان التي يزعمها في نفسه، بل وبعضهم صاحب شبهات يخترعها ويثيرها وهو يظنها تجديدا وتفكيرا!!
وأما الذين هم أئمة الإيمان واليقين فقد كانوا أكثر الناس خوفا على أنفسهم وعلى الناس، ومن المشهور أن عمر كان يسأل حذيفة بن اليمان: هل سماه رسول الله في المنافقين؟! وأخبارهم في هذا مشهورة!
للمؤمنين حساسية عالية فيما يمسّ إيمانهم، وبهذه الحساسية كانوا أهل ورع، يتركون أنواعا من الحلال خشية من الوصول إلى الحرام.
ولو تأمل المرء في نفسه لعرف منها هذا، وأما الواقع الذي حولنا فحافل بالأدلة والبراهين، شبهةٌ واحدةٌ تغزو أحدهم فتحيله بعد سنوات إلى نقيض ما كان عليه بالجملة، وأكثر أهل الشبهات هؤلاء يتفلتون من الدين سلوكا وأخلاقا فضلا عن التفلت الفكري، فأمر الانحراف شاملٌ وليس مجرد تغير في القناعات الفكرية.
فهذا الذي يتهاون في أمر من صميم الدين بعد أن عرف الخلاف فيه، لم يكن شأنه زيادة العلم ومعرفة الخلاف، مع بقائه على المرتبة العالية في التمسك، أبدا.. إنما كانت زياده العلم ومعرفته بالخلاف نقصا في الدين.
لذلك لم يكن حرص الأولين على دينهم مدعاة للجهل، بل قد كانوا أعلم الناس، فكانوا مع معرفتهم بالرخص والخلاف يحرصون على بقائهم في مراتب التدين العالية، وأخبار تواريخهم تفيض بذُرى العبادة والأحوال التي وصلوا إليها!
ولذلك لم يكن حرصهم على إيمان الناس معناه حرصهم على البقاء في الجهالة، وإنما كان أداء العلم في حضارتنا الإسلامية مربوطا بالتربية والتزكية، حتى إن الطالب ليدرس مع الفقه متنا في التزكية والتربية لكي لا يخرج من دراسة الفقه كالمحامي الذي يبحث عن الثغرات القانونية في الأقوال الشاذة.
ومن بديع ما يُحفظ قول الشاعر:
أيها الطالب علما .. ائت حماد بن زيد
فاستفد علما وحلما .. ثم قيِّده بقيد
كان أهل العلم والتقوى حريصين على ألا ينفك العلم عن العمل، وألا يكون زيادة العلم مفضية إلى الضلال، ولهذا منعوا من خوض علوم دون تأهل لها، وبعضهم حرم علوم الفلسفة والمطق والكلام، ولهم في هذا كلام شديد مشهور.
وربما تختصر كلمة الذهبي سر هذا المنهج، قال: “كان أكثر أئمة السلف يرون أن القلوب ضعيفة والشُبَه خطَّافة”.
فلا يزال المرء في أمن وعافية ما لم يتعرض للشبهات، على أنه إذا كان من أهل النظر والفهم فسيجد نفسه متعرضا لها بالطبع والغريزة، فكلٌّ ميسر لما خلق له، وهذا الواقع الذي نحن فيه تنهمر فيه الشبهات انهمارا، حتى صار القابض على دينه حقا كالقابض على الجمر.
يقول ابن تيمية: “فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو وُلِدوا على الإسلام والتزموا شرائعه وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون، ومعهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يَصِلُون لا إلى اليقين ولا إلى الجهاد، ولو شُكِّكُوا لشَكُّوا، ولو أُمِرُوا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفارا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ولرسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عُوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة. وإن ابتُلُوا بمن يُورد عليهم شبهات تُوجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب، وإلا صاروا مرتابين وانتقلوا إلى نوع من النفاق”.
ولأن ابن تيمية يفقه هذا فقد كان من بديع وصاياه التي نقلها عنه تلميذه ابن القيم، وصيتان أرجو أن يكونا محفورتين في قلوب القارئين، فإنهما غاليتان جدا.. ولكن قبل الوصيتين، لنتذكر معا أنهما لابن القيم، وابن القيم هذا ليس من عموم الناس، بل هو جبل علم شامخ، يكفي أن يقول فيه ابن حجر: “لو لم يكن من حسنات ابن تيمية إلا تلميذه ابن القيم لكفاه”!!.. وهذه كلمة عظيمة قوية.
الوصية الأولى: انتقل إلى العمل، وتحصَّن بالعمل الصالح، وتجاوز التفتيش والتقليب والوقوف عند الأمراض.
قال ابن القيم: “سألت يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة، وقطع الآفات، والاشتغال بتنقية الطريق وتنظيفها، فقال لي جملة كلامه: النفس مثل الباطوس -وهو جب القذر- كلما نبشته ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه، وتعبره وتجوزه، فافعل، ولا تشتغل بنبشه، فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئًا ظهر غيره، فقلت: سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ؟ فقال لي: مثال آفات النفس مثال الحيات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها، والاشتغال بقتلها: انقطع، ولم يمكنه السفر قط، ولكن لتكن همَّتُك المسير، والإعراض عنها، وعدم الالتفات إليها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتُله، ثم امضِ على سيرك، فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدًّا، وأثنى على قائله”
الوصية الثانية: فكِّر قبل أن تتشرب الشبهة، ولا تتشربها ثم تبحث عن الأجوبة
قال ابن القيم عن هذه الوصية أنه لم ينتفع من كلام ابن تيمية بشيء كانتفاعه بها في رد الشبهات، وأقول: وأنا والله أتذكر سعادتي حين قرأت هذا من كلام ابن القيم، فإن فيها الحلَّ الذي وجدته في نفسي. وذلك أن أكثر الناس، وكنتُ كذلك، كنت أقرأ مفتوح القلب فإذا جائتني الشبهة قلت من فوري: ولم لا يكون هذا الكلام صحيحا؟ دعنا نبحث ونفتش وننظر.. فإذا بي أبحث وأفتش والشبهة رابضة في قلبي ألتمس لها الأدلة وأدفع عنها المعارضات، أظنني بهذا أمحص المسائل بكل موضوعية وتجرد.. ثم وجدتني بعدها أعاني من كثرة الشبهات، ثم وجدتني إذا طردت الشبهة من قلبي وتأملتها اكتشفت موطن ثغراتها والنقص فيها من فوري.. لهذا كانت الخلاصة بعد المعاناة: أن أفكر في الكلام والشبهة نفسها تفكير متأمل فاحص، فإذا فهمتُها وكان لدي الرد عليها كان خيرا، وإذا لم يكن لدي الرد ظلت الشبهة في موضع الاختبار حتى أتحقق منها، وبهذا انتفعت واستقامت نفسي.
وكان من قدر الله أني في تلك المرحلة قرأت هذا النص لابن القيم:
“قال لي شيخ الإسلام – رضي الله عنه – وقد جعلت أورد عليه إيراد بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها؛ فلا ينضح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة (البلورة)، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها؛ فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أَشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات”
ومقصود هذا المنشور هو: في عصر الشبهات هذا، على المسلم ألا يُعرِّض نفسه للخطر ما استطاع، فإذا تعرض لشبهة التمس من يجيبه عنها، وأما سلوك أن يدخل المرء وهو يعرف من نفسه عدم الأهلية العلمية ولا القدرة المعرفية في سجالات على صفحات التنصير والإلحاد والعلمانية ثم يشتكي، فهذا سلوك خطر، ولا يجوز للمرء أن يلقي نفسه في المهالك.
- محمد إلهامي يكتب: معارك المصطلحات في الواقع الإسلامي - يونيو 22, 2023
- محمد إلهامي يكتب: «اليهود في التاريخ الإسلامي» - يونيو 19, 2023
- محمد إلهامي يكتب: «اليهود في ظل الخلافة الراشدة» - يونيو 13, 2023