كثير من الجماعات الإسلامية، وكثير من العلماء والدعاة، يعلقون ـبدرجة كبيرةـ وجود الإسلام، وتطبيق الإسلام، ومصير الإسلام ومستقبله، على موقف الدولة ومدى التزامها بالإسلام وقيامها بحمل رايته، وكثيرون يرون أن التطبيق الحقيقي للإسلام والمستقبل الحقيقي للإسلام إنما يتمثل في «قيام الدولة الإسلامية» أو ربما «الخلافة الإسلامية».
ولا شك أن الدولة الإسلامية أو الحكم الإسلامي هي عروة من عرى الإسلام، وحصن حصين للحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، ولذلك فإن الانشغال بأمر إقامتها وبذل الجهود والتضحيات في سبيلها أمر مشروع ومعتبر.
غير أنه حينما تصبح إقامة الدولة الإسلامية هي الشغل الشاغل والهدف العاجل، أو هي الأولوية العليا والغاية القصوى، فإن هذا يصبح داعياً للتريث وموجباً للتثبت، حتى نضع الأمور في نصابها ونعطيها قدرها ومكانها.
لقد رأينا في حركاتنا الإسلامية من يجعلون من إقامة الخلافة شعارهم، ومجمع أهدافهم ومبتدأ طلبهم وتحركهم، معتبرين أن الأمة الإسلامية لا ينقصها سوى استرجاع الخلافة السليبة والنظر في وجهها والتمتع بجاهها.
ومنهم من اعتمدوا شعار «الدولة الإسلامية أولاً»، فخاضوا لأجل الإقامة الفورية لها كبرى معاركهم وألقوا فيها كامل ثقلهم، وجندوا لها كل طاقاتهم وإمكاناتهم المادية والمعنوية.
ومنهم من لا يجعلون الخلافة والدولة كل شيء أو أول شيء، ولكنهم يجعلونها أصلاً من أكبر أصولهم، ومنطلقاً محدداً لتحليلاتهم ومواقفهم ومسارهم، ولذلك فهي عندهم «أعز ما يطلب» حسب عبارة المهدي بن تومرت التي سمى بها أحد كتبه.
وأود أن أوضح أموراً من شأنها أن تساعد على تحديد موقع الدولة ومكانتها في الإسلام، من غير إفراط ولا تفريط، فيما أحسب.
لا نجد في شرع الله تعالى نصاً صريحاً آمراً وملزماً بإقامة الدولة، كما لا نجد في شأنها نصوصاً في الترغيب والترهيب على غرار ما نجد في سائر الواجبات، وإنما تقرر وجوب إقامة الدولة، ووجوب نصب الخليفة، من باب الاجتهاد والاستنباط، ومن باب النظر المصلحي والتخريج القياسي، وامتداداً للأمر الواقع الذي تركه رسول الله.
وفي جميع هذه الحالات، فإن وجوب الدولة والخلافة إنما هو من باب الوسائل لا من باب المقاصد، فهي (أي الدولة) من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، بمعنى أن هذا الواجب ليس من نوع «الواجب لذاته» وإنما هو من نوع «الواجب لغيره»، ومعلوم أن الواجب لغيره أخفض رتبة وأقل أهمية من الواجب لذاته، وهذا يعني أمرين:
الأول:
أن السعي في إقامة الواجب لغيره لا ينبغي أن يكون على حساب ما هو واجب لذاته، ولا يجوز أن يكون ضاراً به أو مفوتاً له.
والثاني:
أن ما تتوقف إقامته على إقامة الدولة، إذا أصبح ممكن التحقيق بغير الدولة فقد سقط وجوب هذه الوسيلة سقوطاً جزئياً.
كما أن الدولة القائمة قد يتأتى في كثير من الحالات إقامة بعض الدين في ظلها أو من خلالها، حتى ولو كانت منحرفة أو مناوئة أو معادية، فضلاً عما إذا كانت محايدة أو محابية.
وفي هذه الحالات أيضاً فإن أهمية «الدولة الإسلامية» وضرورتها تنقص بقدر ما تتيحه “الدولة القائمة” من فرص وإمكانات لإقامة الدين وإقامة أحكامه في الحياة الخاصة والعامة.
ثم إن الدولة التي نعتبرها وسيلة، هي في الحقيقة وعلى وجه التفصيل مجموعة من الوسائل، وهذه المجموعة من الوسائل قابلة للتفكيك والتفريق، أو بتعبير الأصوليين: قابلة للتبعيض، بحيث يتحقق بعضها دون بعض، ويكون بعضها قابلاً للتحقيق وبعضها ليس كذلك، ويكون بعضها صالحاً مشروعاً، ويكون بعضها منحرفاً مرفوضاً، وهذا يعني أن ما يكون متحققاً وصالحاً ومقبولاً في الشرع، أو كان ممكن التحقيق والإصلاح، فهو جزء من «الدولة الإسلامية» يجب التمسك به والاعتداد به.
غير أن الخطأ الكبير والمأزق الخطير الذي وقعت فيه وتقع فيه بعض الحركات الإسلامية، هو الانشغال بالوسيلة عن الهدف، وتضييع الهدف حرصاً على الوسيلة، فكثيرون أولئك الذين أفنوا أعمارهم واستهلكوا حياتهم واستنفدوا جهودهم على طريق إقامة الدولة، من غير أن يظهر لهذه الدولة أثر ولا خبر، وربما لم تزدد الدولة بفضل جهودهم إلا بعداً وعسراً، وهكذا فلا الدولة قامت بهم، ولا الأمة استفادت منهم.
والأدهى من هذا والأمر، هو أن يصل طلب الدولة والسعي إلى إقامتها إلى درجة التعذر والانسداد، أو بعبارة أخرى: يدخل طلب الدولة في مرحة انسداد المسالك وانفتاح المهالك، ومع ذلك يستمر الإلحاح والإصرار والصدام، والحقيقة أن إقامة الدولة تخضع لشروط وأسباب وقوانين تاريخية واجتماعية وسياسية، لا يمكن إلغاؤها أو القفز عليها بمجرد رغبة أو قرار، ولا بمجرد تقديم جهود وتضحيات، حتى ولو كانت صادقة ومخلصة وجسيمة، وقديماً قال ابن عطاء الله الإسكندري رحمه الله: «ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهره الله»
فمن يريد ويصر على أن يحقق شيئا ويظهره في الوجود من غير أن الله تعالى قد هيأ أسبابه وأنضج شروطه، فإنما يعبر بذلك عن جهله الكبير بالسنن والقوانين الاجتماعية.
نعم إن عمل الإنسان وجهده وتقدمه ونجاحه هو جزء من الأسباب والشروط، وهو محرك للسنن والقوانين بإذن الله، ولكنه يظل محكوماً أو على الأقل محدوداً بفعل عوامل كثيرة لا يجوز إغفالها أو إسقاطها من الحساب والتقدير، ولو فرضنا أن إقامة «الدولة الإسلامية» هي شعيرة تعبدية وفريضة تعبدية مطلوبة لذاتها، لكان على طلابها أن يتأنوا في التقدير ويتدرجوا في التدبير، وأن يجملوا في طلبهم “فإن المنبَتَّ لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى” فكيف والأمر لا يصل إلى هذه الدرجة ولا يكتسي هذه الصفة.
أضف إلى هذا أن المجال فسيح أمام الحركة الإسلامية ودعاتها وعمالها في أن تحقق الكثير من أهدافها ومن أحكام دينها ومن إصلاح مجتمعها، من غير أن تقيم دولة ومن غير أن تمتلك سلطة، وذلك من خلال العمل في صفوف الأمة ومن خلال بناء الأمة ومن خلال «إقامة الأمة بديلاً عن إقامة الدولة»، وبيان ذلك فيما يلي:
بناء الأمة أولاً:
عن أبي أمامة قال: قال رسول الله: «لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة».
يكثر الاستشهاد بهذا الحديث على أهمية الدول الإسلامية وعلى أولويتها أو ضرورة استعادتها ضمن حركة التصحيح وإعادة البناء، حيث إن الحديث اعتبر الحكم عروة من عرى الإسـلام.
غير أن هذا الحديث يشير إلى حقيقتين ضمنيتين لا ينتبه إليهما المستشهدون به، وهما:
۱ـ كون الحكم هو أضعف عروة من عرى الإسلام، لأن الانتقاض والانكسار يصيب أول ما يصيب الجزء الأضعف أو الأقل صلابة من أي شيء، بينما يظل الجزء الأكثر قوة ومتانة صامداً مقاوماً لعوامل الهدم والكسر، حتى يكون الأخير بقاء والأخير انكساراً وانتقاضاً، فمعنى الحديث أن أضعف ما يعتمد عليه الإسلام في وجوده وبقائه هو الحكم، وأن أقوى ما يقوم عليه وأصلب ما فيه هو الصلاة.
۲ـ إن الإسلام يمكنه أن يستمر ويستقر وينمو ويمتد حتى مع انتقاض عروة الحكم، بانحرافه أو غيابه، فمن المعلوم أن الله تعالى أنزل دينه «ليظهره على الدين كله» وأنه وجد ليبقى إلى قيام الساعة، فإذا كان سيفقد عروة الحكم في وقت مبكر من تاريخه، فمعنى هذا أنه سيعيش ويستمر قائماً زمناً طويلاً دون الاعتماد على تلك العروة المنتقضة !!!
ومصداق هذا التنبيه النبوي وتفصيله وبيانه يوجد في تاريخ الإسلام والمسلمين، من أول قرونه إلى الآن، فقد ترعرع الإسلام واشتد عوده وامتد نفوذه عبر الزمان والمكان بالرغم من انتقاض عروة الحكم، وصان المسلمون عزتهم ومنعتهم وحفظوا بيضتهم وأقاموا حضارتهم وطوروا علومهم، بل وسعوا رقعتهم ونشروا في العالمين دينهم، بالرغم من الانحراف والفساد والوهن في دولتهم وحكامهم وحكوماتهم.
*ماذا يعنـي هذا؟*
يعني أن عرىً أخرى في الإسلام أكثر أهمية وفاعلية من عروة الحكم بقيت قائمة مشتغلة، ويعني أن الأمة تستطيع أن تكون قوية متينة نامية فعالة حتى مع وجود اختلالات وانحرافات وعاهات في نظام حكمها، ومعنى هذا أيضاً أن الدولة ليست كل شيء وليست أهم شيء، وحين تصير الدولة هي كل شيء أو هي أهم شيء، في حياة الناس، وحتى في أذهانهم، فإنها تصبح حينئذ أخطر شيء على الناس وعلى قدراتهم ومبادراتهم وفاعليتهم.
أما حين ينظر الناس إلى الدولة على أساس أن لها حيزاً محدوداً ووظائف محدودة، وأنها لا يمكن أن تقوم مقام الأمة ولا أن تلغي وظائفها، فإنهم حينئذ يتحررون من عقدة الدولة ومن تأليه الدولة، وينطلقون في أداء واجباتهم وإصلاح شؤونهم وبناء مجتمعهم وحمل رسالتهم، أياً كانت مواقف الدولة ودرجة تعاونها أو تخاذلها أو انحرافها.
ومن الواضح جداً أن عامة المسلمين وعلماء المسلمين عاشوا ومضوا زمناً طويلاً وقروناً عديدة على هذا الأساس، ولذلك استمر الإسلام يزداد قوة بعد قوة، وينتشر ويتسع مداه يوماً بعد يوم، واستمرت الشعوب الإسلامية في تماسكها وتقدمها وعطائها بالرغم مما أصاب أنظمتها الحاكمة وحكامها من أعطاب وعيوب لا أنكر آثارها السيئة ولا أقلل منها.
وهذا ما يحتم علينا العناية بالأمة وبتفعيل طاقاتها وتطوير آليات عملها قبل العناية بالدولة ومؤسساتها، ليكن شعارنا في ذلك: (بناء الأمة وتفعيلها أولاً).
لنتذكر أن الأمة هي ما يزيد على الألف مليون، وأن عشرات الملايين منهم يوجدون في قلب الدول الغربية والحضارة الغربية، وأن في الأمة ملايين من العلماء والأثرياء، ومن المفكرين والمبدعين، ومن الدعاة والعاملين، وملايين من المستعدين الراغبين في البذل والتضحية والجهاد لدينهم ولأمتهم وللبشرية قاطبة، وأن كل هذه الطاقات التي لا يحصيها إلا الله تعالى، لا تحتاج إلا إلى التحريك والتوجيه، تحتاج إلى من يسلك بها سبل الرشاد، في الدعوة والتعليم والإعلام والتدافع السياسي والثقافي السلمي، والعمل الخيري والتنموي.
- د. أحمد الريسوني يكتب: مدرسة رمضان تفتح أبوابها - مارس 29, 2023
- د. أحمد الريسوني يكتب: إثبات الشهور القمرية بالحسابات الفلكية - مارس 24, 2023
- د. أحمد الريسوني يكتب: حماس والنظام السوري.. مبادئ ومواقف - أكتوبر 29, 2022