لا شكّ أنّ الأعداء قد أوشكوا أن يصيبوا الأمة في مقتل يوم أن أوهنوا في قلوب المسلمين عقيدة الولاء والبراء، حتى كاد المسلم والكافر أن يكونا في رأيهم سواءً، بل ملأ الرويبضات عقيدة الأمة الإسلامية ـ في التعليم والإعلام وغير ذلك ـ بالضآلة النفسية تجاه القوة المادية الغربية، وأشعروهم بالضّحالة الفكرية للمسلين في مقاومة نظريات الكافرين والعلمانيين.

 

فأولئك هم المسئولون عن هزائم المسلمين في حروبهم الخاسرة؛ لأنّ فيهم (قابلية الاستعمار) بتعبير مالك بن نبي، وروح الهزيمة والصّغار، فهم عوامل النكسة العربية ومعاول الهدم في صرح الحضارة الإسلامية؛ لأنهم يعيشون اغتراباً عن الأمة، وانحيازاً إلى أعداء الملة فهم بتعبير بعض المؤلِّفين بمثابة (جُزُر في أوطانهم).

 

وما ظنّك بعامة العلمانيين؟.. إذا كان عميد الأدب العربي (كما سمّاه المستغربون، وإلاّ ففي أترابه من هو خيرٌ منه فكراً وأسلوباً، منهم أديب الإسلام مصطفى صادق الرافعي رحمه الله).

 

والأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة سنين خدّاعة، يُتّهم فيها الأمين، ويُؤتمن الخائن، ويُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق…). رواه الطبراني، والحاكم في الكُنى، وابن عساكر، كما في كنز العمّال: 38511).

 

طه حسين ـ رمز الثقافة المنبتّة عن الأمة ـ ينادي بأعلى صوته: “لو أننا هممنا الآن أن نعود أدراجنا، وأن نحيي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، ولوجدنا أمامنا عِقاباً لا تُجاز ولا تذلّل، عقاباً نُقيمها نحن، وعِقاباً تُقيمها أوروبا؛ لأننا عاهدناها أن نسايرها ونجاريها في طريق الحضارة)! [مستقبل الثقافة في مصر الجزء الأول: 36-37]

 

فقد حاز سبع هزائم:

 

1️⃣ أنه لا يقدر أن يحيي نُظُم الإسلام ((وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ))!! [سورة الحج: 18]

 

2️⃣ أنه يراها عتيقةً ما عادت صالحة للذين يُبدّلون ويغيّرون ويلبسون لكل مناسبة لَبوساً!!

 

3️⃣ أنه لا يقدر أن يَهِمَّ بذلك مجرّد الهمِّ، وكفى بذلك همّاً وغمّاً!!

 

4️⃣ أنه يعترف بتبعيّته، ولا يستنكف من عبوديته للغرب!!

 

5️⃣ أنه يَرعى عهده مع أوربا ولا يراعي عهده مع الله في إحياء النظم العتيقة!!

 

6️⃣ أنه يخشى أوربا؛ لأنها وضعت أمامه عِقاباً لا تُجاز ولا تُذلّل!!

 

7️⃣ وهي عار الدهر! ـ أنه ذلّل نفسه لخدمة أوربا! وذلك ظاهر في قوله “عِقاباً نُقيمها نحن” فاستعماره عميق في داخله, واستلابه عتيق يملأ عليه أرجاء فؤاده!

 

فالحقيقة ـ التي لا يُمارِي فيها عاقلٌ منصف ـ أنّ الذين ضيّعوا الحضارة الإسلامية وعطّلوا نهضة الأمة هم العلمانيّون الذين أحسن وصفهم العلامة أحمد شاكر:

 

“فالواحد منهم قد استولى المبشرون على عقله وقلبه, فلا يرى إلا بأعينهم, ولا يسمع إلا بآذانهم, ولا يهتدي إلا بهديهم, ولا ينظر إلا على ضوء نارهم يحسبها نوراً, ثم هو قد سمّاه أبواه باسم إسلامي, وقد عُدّ من المسلمين ـ أو عليهم ـ في دفاتر المواليد وفي سجلات الإحصاء, فيأبى إلا أن يدافع عن هذا الإسلام الذي أُلبِسَه جنسيةً ولم يعتقده ديناً, فتراه يتأوّل القرآنَ ليُخضعه لما تعلّم من أُستاذيه، ولا يرضى من الأحاديث حديثاً يخالف آراءهم وقواعدهم, يخشى أن تكون حجتهم على الإسلام قائمة!!” [حراسة الفضيلة للشيخ بكر أبو زيد: 160].

 

وما أصدق ما وصفهم به الأديب الكبير كامل كيلاني بـ (المجدِّدينات)، مبيّناً أنّ هذا (جمع مخنث سالم!) [المرجع السابق].

 

وصدق الله العظيم القائل: ((وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)) [سورة الروم: 31-32].

 

كيفية مقاومة الآثار السلبية للهزيمة النفسية على هوية الأمة:

 

ولعل هذا يحتاج إلى أبعاد كثيرة وزوايا مختلفة، ولعل أبرزها:

 

أولًا:- تعزيز الهوية بأقوى عناصرها، وهو العودة إلى الإسلام، وتربية الأمة عليه بعقيدته القائمة على توحيد الله سبحانه، والتي تجعل المسلم في عزة معنوية عالية “وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ” [المنافقون: من الآية8]، وبشريعته السمحة وأخلاقه وقيمه الروحية وتقوية الصلة بالله سبحانه وتعالى واليقين بنصره وتمكينه للمؤمنين إذا استجابوا لربهم وقاموا بأسباب النصر، فالهزيمة الحقيقية هي الهزيمة النفسية من الداخل حيث يتشرب المنهزم كل ما يأتيه من المنتصر، أما إذا عززت الهوية ولم تستسلم من الداخل فإنها تستعصي ولا تقبل الذوبان.

 

ثانياً:- العناية باللغة العربية في وسائل الإعلام ومناهج التعليم وتسهيل تدريسها وتحبيبها للطلاب، ومن العناية باللغة العربية تفعيل التعريب والترجمة والتقليص من التعلق باللغات الأخرى إلا في حدود الحاجة اللازمة.

 

ثالثاً:- إبراز إيجابيات الإسلام وعالميته وعدالته وحضارته وثقافته وتاريخه للمسلمين قبل غيرهم، ليستلهموا أمجادهم ويعتزوا بهويتهم.

 

“إن الرد الحقيقي على الطاغوت الحالي الذي يسمى العولمة – والذي أدى بدوره إلى هزيمة نفسية عند المفتونين بالنموذج الغربي – هو إبراز النموذج الصحيح الذي يجب أن يكون عليه الإنسان، لكي يصدق الناس -في عالم الواقع- أنه يمكن أن يتقدم الإنسان علمياً وتكنولوجياً واقتصادياً وحربياً وسياسياً وهو محافظ على إنسانيته، محافظ على نظافته، مترفع عن الدنايا، متطهر من الرجس، قائم بالقسط، معتدل الميزان” {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: من الآية25].

 

إن العولمة يجب أن تكون – من أجل الإنسان- في العلوم والتقنيات والتعامل والتعاون الذي يحترم فيه البشر بعضهم، أما الديانات والثقافات والتقاليد فهي حضارات الشعوب ملك لهم تشكل تنوعاً غير ممل بشرط ألا يتعدى أحد على الآخر.

 

وأن نعلم أن هويتنا وذاتيتنا بعمقها الديني والحضاري لا بديل لها من أية حضارة أخرى مهما بدا في زينتها.

 

فثقافتنا عالمية، أبدعت وأضافت وأعطت، ورغم خصوصيتها كانت إنسانية شاملة، لا بتراثها الإسلامي – وهو ذروة عطائها- ولكن بما تجاوزته من عناصر الحضارات الأخرى، وبلغتها العربية وفنونها وآدابها.

 

وكما صنعت الأمة ثقافتها، صنعتها ثقافتها، وحافظت على هويتها عبر أداتها التعبيرية لغة القرآن، فلا تكاد تملك لغة من اللغات ما تملكه اللغة العربية من تراث فكري مكتوب، لا في الكم، ولا في النوع، ولا في النسق اللغوي المتماسك.

 

وحقيقة الأمر أن الأمة تملك من المقومات ما يجعلها في مقدمة الأمم. إذا هي حافظت على هويتها، واعتزت بأصالتها وعراقته وقبل ذلك دينها.

 

فوالله ما ضيّع فلسطين ـ بعد أن فتحها عمر رضي الله عنه وحرّرها صلاح الدين ـ إلا هؤلاء المنهزمون نفسيا ودينيا وحضاريا، وما فرق شمل الأمة ومزق وحدتها، وأسلم قيادها لعدوها إلا هؤلاء ومن على شاكلتهم، وما أسَرَ اليهود فلسطين الغراء من أيدينا، إلا بسبب ضعف الولاء والبراء في قلوبنا، ولا أمل إلا في استرداد عزتنا، ومعرفة عدونا الحقيقي المتربص بنا، دون مزايدات أو مهاترات، وعندها وعندها فقط،أبشري يا أمة الإسلام.

 

نسأل الله أن يردّ الأمة إلى رشدها

من د. أحمد زكريا

كاتب وباحث