‏جراحات الأوطان كجراحات الأبدان، فبقاء جروح الأشخاص دون تعقيم ومعالجة يفضي إلى تقيّح وتقرح وتعميل وانتقال الجرح إلى أماكن أخرى من الجسم حتى يهدده بكليته، وبقدر تأخير المعالجة تكون التداعيات. ما يجري اليوم في سوريا هو تماماً ما يحصل للجروح في الأجساد، فلم تدع الدول الجرح السوري المفتوح وحده يتقيح وإنما تدخلت سلبياً فزادته تقيحاً وتقرحاً، وهو ما هدد البلد كله، وبات يهدد الجوار الإقليمي، وحتى العالم برمته، بهجرات ضخمة، وبتداعيات الحدث السوري، وربما بتهديدات ستظهر تجلياتها لاحقاً ما دام الكل يصرّ على دفن التداعيات تحت السجادة، بذريعة تشكيل أجسام سياسية لتوهم وتخدع السوري وغيره بأن ثمة طبخة على النار، بينما في الحقيقة هي طبخة حصى، وبحث عن سراب، وحرث في البحر، إن كان على مستوى هيئة التفاوض التي ابتلعها وفد الأستانة، لتقوم لجنة الدستور بابتلاع الاثنتين.

 

نحاول في هذه المقالة رسم صورة عن مدى تفسّخ الدولة السورية داخلياً وإقليمياً وخارجياً، ونبدأها من تفسخ الدولة عسكرياً وأمنياً، بعد أن غدا الاحتلال بأشكاله المختلفة أقرب ما يكون إلى متعهد للفرق العسكرية والأجهزة الأمنية النظامية، مما استلزم الاشتباك والاقتتال بين المتعهدين والمشغلين أنفسهم، تجلى ذلك بوضوح في حجم الاغتيالات التي تجري بشكل شبه يومي في الجزيرة السورية، أو في الشمال السوري، بين أجهزة أمنية تابعة للقوات الإيرانية والقوات الروسية، بعد أن سعى الأخير إلى مزاحمة الإيراني على وجوده في الجنوب، عبر تشكيله الفيلق الخامس من بقايا قوات الجيش الحر الذي صالح الروس، ولكن هذا الفيلق يواجه عقبات كبيرة إن كان بنظرة الإيراني المعادية له لخلفية مقاتليه الثورية سابقاً حين قاتلت النظام، وثانياً لأن متعهده ومشغله هو الروسي الذي ينافسه على النفوذ في الداخل والخارج.

 

‏في دير الزور ثمة متعهدون آخرون، فالأميركي وعبر قوات سوريا الديمقراطية، وربما جهات ثورية أخرى، يقوم باغتيال وتصفية رموز عسكرية وأمنية إيرانية وميليشياوية، يترافق ذلك مع غارات أميركية على القوات الإيرانية لتجاوزها مناطق جغرافية، يراها الأميركي ضمن حرمه وحرم ميليشياته الكردية، وفي الغوطة اليوم عودة قوية لأجواء 2011 و 2012؛ إذ إن معظم الشباب الذين صدّقوا المصالحات الروسية لجؤوا اليوم إلى البساتين والبراري هرباً من دعوتها مجدداً للقتال في صفوف النظام، وهو ما يخالف ما تم الاتفاق عليه، فضلاً عن اعتقالات واسعة النطاق لمن هو دون الخامسة والخمسين أو سوقه إلى المحرقة في إدلب وغيرها من المناطق التي لا تزال مشتعلة على النظام والاحتلال.

 

‏لم يعد هناك نظام يضبط الأمن العسكري، فهناك ميليشيات وفيالق ومجموعات تتقاتل فيما بينها على النفوذ الاقتصادي والجغرافي، فلا يخفى أن الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد تتبع الإيراني، بينما يتبع سهيل الحسن وميليشياته الاحتلال الروسي، ولم نعد منذ فترة طويلة نسمع عن وزير الدفاع السوري ولا عن ناطقه الرسمي، ما دامت قاعدة حميميم قد كفتنا وكفته مؤونة الظهور له، ومؤونة الانتظار لنا، وقلما يمرّ يوم لا نسمع فيه قتالاً بين ميليشيات فاطميين وزينبيين، والعصائب، وحزب الله، وغيرها من الميليشيات الطائفية التي تُدار برؤوس متعددة لا علاقة للنظام بها، ولا علاقة لها بالنظام. ‏الأجهزة الأمنية التي فقدت أخطر وأهم خبراتها الإجرامية خلال أيام الثورة المستمرة منذ ثماني سنوات، تواجه اليوم مأزقاً حقيقياً، فكثرة التنقلات والتحركات داخلها، بالإضافة إلى ولاء هذه الأجهزة اليوم لمشغلها الإيراني والروسي، جعل البلد يُدار برؤوس عسكرية وأمنية متعددة، وبأكثر من عقيدة عسكرية وأمنية، الأمر الذي يفقدها عقل الدولة الواحد، مما زاد من حالة التفسخ والتعفن الذي أزكمت رائحته الأنوف، وأول ما أزكمته الحزام الموالي للعصابة نفسه، عبر تحركاتها الشعبية، ومطالبة الجنود المقاتلين بالتسريح، بعد طول قتال لا يبدو في الأفق له حلٌّ أو نهاية.

 

فلم يعد هناك رئيس حتى للموالين له، وللمناطق الجغرافية التي يسيطر عليها اسمياً، فهل سمعنا عن زيارة له إلى المناطق التي أعاد الاحتلال السيطرة عليها من: حلب ودير الزور ومناطق ريف حماة وغيرها من المناطق..

 

‏يجري الحديث اليوم عن تفسّخ الاقتصاد السوري، الذي بات رهين المحبسين، رهين القوى الدولية التي تمكّنت من سوريا إن كانت الروسية حين سطت على حقول الغاز في البادية، ومعها حقول الفوسفات والثروات المعدنية السورية، ومعها سطت على قواعد عسكرية مهمة، أما الإيرانية فقد سطت على موانئ سورية، ومطار دمشق الدولي، والسعي المحموم إلى شراء الممتلكات بأبخس الأثمان، تحت ظروف قاسية وصعبة للهاربين والمشردين، وهناك الأميركية التي سطت على حقول النفط في الجزيرة السورية، عبر العصابات الكردية التي تقوم بمخططات هي أسوأ من المخططات التي تقوم بها الطائفة الحاكمة بحق السنة العرب هناك، فقد ذكرت دراسة أخيرة لـ «سنيابس سوريا» أن: «الدولة السورية شبه تلاشت، وحكومة النظام متهاوية، مفلسة، لا تمارس من أشكال الحكم إلاّ أكثره سطحية، وهي تلجأ إلى تمويل نفسها بطرق تدفع البلد نحو الهاوية».

 

‏أما الرهينة الثانية، فهم تجار الحروب، الذين برز معظمهم خلال الثورة، وتعزّز دور بعضهم الآخر، فباتوا مليارديرات معلنة، وقد كتبت عن ذلك «الفايننشال تايمز» وغيرها من الصحف العالمية، وحتى ظهرت تقارير اقتصادية عالمية مهمة تحكي عن تلك الحالة المهدّدة لاستقرار واقتصاد سوريا،ودول الجوار وما وراءها.

 

‏فبروز مليارديرات سورية، على حساب الطبقة الوسطى التي لم يعد لها وجود في سوريا، جعل البلد طبقتين، طبقة المليارديرات، وطبقة الفقراء المعدومين، وإن كان النظام يرغم ابن خاله رامي مخلوف وغيره على دفع مليارات الدولارات للروس كما طلبوا، ثمن احتلالهم وحربهم، وكانت «الفايننشال تايمز» اعتبرت رامي مخلوف بأنه يملك أكثر من نصف الاقتصاد السوري، لكن الأخطر من ذلك كله أن النظام اليوم لديه خطة اقتصادية جديدة تخالف القديمة، بحيث لم يعد يقبل بشراكات خلفية لرجال الأعمال، وإنما لا بد من أن يكون هو نفسه في مقدمة الشراكة وليس وراءها، وحينها ليعلم كل اقتصادي مدى الانحدار الذي سيصله الاقتصاد حين يتسلّمه ضابط مخابرات أو أمن، وحجم الثقة التي سيحظى بها وسط الشركات العالمية ورجال المال الدوليين.

 

‏ فرق الجيش السوري باتت تموّل من قبل هؤلاء الميارديرات، وهو بالطبع ما سيؤثر على العقل الواحد الذي يديرها، ويجعلها بطريقة أو بأخرى متعددة الاتجاهات، نتيجة تعدد التمويل، ويزداد معه التفسخ العسكري والأمني، ليصل الأمر إلى تشغيل أعضاء الفرقة الرابعة في جمع خردوات الحديد والفولاذ من داريا، وتسليمه لرجال أعمال لبيعه وتقاسمه مع ماهر الأسد لاحقاً، فضلاً عن نقل النفط من مناطق قوات سوريا الديمقراطية للنظام في دمشق.

 

‏هذا الانهيار المريع للاقتصاد السوري، وتراجع الشركات السورية يعني باختصار خسارة الملايين لفرص العمل، وبالتالي، دفع الشعب للهجرة إلى الخارج طلباً للرزق، فأخطر الثورات هي ثورة الفقراء، كما يقرر غوستاف لوبون وغيره من علماء الاجتماع.

 

‏الدراسة التي نشرها معهد تشاتام هاوس البريطاني المهمة، تعكس حالة قلق لدى موسكو لخصها تاجر دمشقي: «لا يمكن للميّت أن يحمل ميتاً»، فموسكو عجزت عن إقناع أحد بتمويل إعادة الإعمار، وواشنطن هدّدت بالمقابل كل من يعيد العلاقة مع النظام أو من يعيده لجامعة الدول العربية، وأتى انهيار الليرة السورية مؤشراً على أزمة مالية دائمة وليست مؤقتة، فهو يعكس انهيار الأسس والمداميك الاقتصادية، إذ قدّرت الدراسة خسائر الشعب السوري من الحرب المشنونة عليه بـ 428 مليار دولار، والأمر سيزداد سوءاً مع تطبيق قانون قيصر، الذي سيفرض عقوبات اقتصادية على كل متعاون مع النظام.

 

‏ما لدينا اليوم عبارة عن سوريا تم اقتطاعها من دول عدة، كل دولة حازت على قطعة، أو شقفة تقاسمها المحتلون الكثر.

 

‏ففي العرينة ريح ليس يقربه

‏بنو الثعالب غاب الأسدُ أم حضروا

‏وفي الزرازير جبنٌ وهي طائرةٌ

‏وفي البزاة شموخ وهي تحتضر.

 

المقاربة التي لجأت إليها الدول بشكل عام لتسوية الثورة السورية أخطأت التوصيف منذ البداية، أو هي تعلم التوصيف ولكن سعت إلى التذاكي، فما يجري ثورة شعب مقهور، جثمت عصابة طائفية على جسده لنصف قرن، ولا تزال تصرّ على أنها هي صاحبة المزرعة، ولا يحق للعبد أن يأبق سيده بنظرها، وعلى الرغم من تقديم الشعب السوري لهذا العدد الخرافي من الشهداء والجرحى والمعتقلين والمشردين والدمار، فإنّ العالم كله لا يزال يصرّ معه على مقاربته التي تقول إنه خلاف بين معارضة ونظام، وبالتالي، لا بد من تسوية ذلك ببقاء النظام، والضحك على الشعب بشكليات كالدستور، وكما قال أحدهم: «ليس لدينا مشكلة مع دستور بشار الأسد، فقط خذوا النظام، ونحن قابلون بالدستور».

 

‏الفوضى الأمنية التي تسعى القوى العالمية على إبقاء عفريتها في قمقم الشام لا يمكن أن تدوم طويلاً، تماماً كما لا يمكن السيطرة عليها وضبطها لفترة أطول، فالفوضى الأمنية اليوم متعددة، إن كانت على المستوى التعليمي أو على المستوى الأمني، وربما على المستوى الصحي، وكذلك على مستوى انتشار المخدرات وغيرها، ويكفي الهجرات التي تهدد دول الجوار، وعبء المهاجرين والمشردين على دول الجوار نفسها، فكما لا يخفى أن موجة الهجرة لعام 2015 عزّزت النازية الجديدة، واليمين المتطرف في دول كالسويد وهنغاريا وحتى ألمانيا.

 

‏لا يخفى أن العصابة الطائفية تسعى -كما وصف رأس النظام بشار الأسد- لتجانس المجتمع السوري، تجانساً يعني طرد السوري من بيته وجلب العراقي واللبناني والأفغاني والباكستاني الطائفي المتجانس مع العصابة الطائفية، وهو ما يعني أيضاً وباختصار ألاّ تعود الأغلبية السنية إلى ما قبل عام 2011، بحيث تكون أقليّة أو أقرب إلى الأقلية، لا نفوذ لها ولا مكانة لها، وبالتالي، فمطرقة النظام في طرد الشعب السوري من أرضه -والذي بلغ عدد المشردين 12 مليون سوري، نصفهم مشردون للداخل، والنصف الآخر للخارج- يقابلها سندان الدول المجاورة، التي ينبغي أن تستوعب وتستقبل المشردين الذين يطردهم النظام السوري، وهناك اليوم حوالي خمسة ملايين لاجئ ومقيم في الشمال السوري مهددون بالتحول إلى سندان الدول المجاورة، أو أوروبا تحديداً.

 

‏ما يجهله الغرب والشرق اليوم أنهم إن أرادوا حلّ القضية السورية وفقاً للشروط والمعايير التي يريدها النظام والاحتلال، فإن هذا سيكون على حسابهم أنفسهم، إما من خلال استيعاب ملايين المشرّدين، وكذلك من تداعيات الغضب الشعبي العارم مستقبلاً على دول حرمتهم من بلادهم يوم تصالحت مع النظام وحلّت له مشكلته، وهذا رأيناه يوم تصدر العنف الفلسطيني والأفغاني بعد أن سرقت جهوده وثورته، وربما أمثلة عالمية أخرى.

 

‏هذا الواقع السوري دفع المحافظات السورية -التي ظنّ الاحتلال وذيله أنه أخضعها بالمصالحات أو بالاحتلال وبالبوط العسكري- للانتفاض من جديد، فمن كان يتخيل أن تخرج مظاهرات في دير الزور تهتف للشمال المحرر وتندّد بالهجمة عليه، وتطالب برحيل النظام من جديد، بل ويتطور الأمر إلى مهاجمة حواجز للنظام والاستيلاء عليها، بعد كل هذا الذي رآه الشعب السوري من بطش النظام والاحتلال، والأمر نفسه يجري في حوران حيث تخرج المظاهرات في جاسم وغيرها تندّد بالاحتلال والنظام وتطالب بإسقاط الأخير، ووصل الأمر إلى عمليات عسكرية نوعية في الصنمين وغيرها من مناطق درعا تطال رموز الاحتلال والنظام، وهو ما أربك الأخير وأربك معه مخطط الاحتلال الروسي، الذي ظنّ أنه جعل من حوران جروزني أخرى بممارساته القمعية، ليفاجأ بفينيق حوران ينتفض من جديد.

 

‏الواقع ربما أخطر في مناطق ريف دمشق، حيث يتهيأ -باعتقاد المطلعين- لمرحلة قد تكون أخطر من السابقة على النظام، تجسدت في هروب أعداد ضخمة من المطلوبين للنظام ومهاجمة بعضهم وبالأسلحة البيضاء حواجز النظام في الريف الدمشقي، فضلاً عن تمكن بعضهم من تنفيذ عمليات اغتيال لبعض رؤوس النظام دون الإعلان عنها أو الكشف عمن يقف وراءها، يساعد ذلك تفسخ الأجهزة العسكرية والأمنية والاقتصادية، وتشتت قراراتها وعقيدتها العسكرية بين ولاء للروس وآخر للإيرانيين، وبينهما ولاءات متعددة لأجهزة أمنية وشخصيات عسكرية لم تعُد جامعة مانعة كعادة الشخصيات العسكرية الطائفية التي كانت في السابق، فالتهمتها الثورة خلال السنوات الثماني الماضية، وبقيت شخصيات عسكرية لا وزن لها ولا خبرة كسابقاتها.

 

‏الموجة الثورية التالية -كعادة كل الثورات- ستكون أعنف وأقوى وأكثر تجذراً، فقد رأينا لا مبالاة الناشطين والثوريين بكل الجهود الدولية السرابية والعبثية لتسوية الثورة السورية، من خلال ردود الأفعال تجاه لجنة الدستور، حيث وقّع الآلاف على عريضة للأمم المتحدة، على رأسهم البروفيسور برهان غليون رئيس المجلس الوطني السابق، ترفض اللجنة الدستورية، إذن فالمزاج الشعبي والثوري والنخبوي غدا ضد كل التسويات الدولية التي تسعى لفرض النظام السوري على شعبه من خلال مشاركته بدستور أو غيره، بينما الكل يعلم أن مسودات الدستور كتبت في دول الاحتلال.

 

‏اليوم يرى الشعب السوري كيف يخسر مرشح الجيش التونسي وزير الدفاع السابق، وكيف يُشتم الجيش المصري بسبب السيسي في المظاهرات والشوارع المصرية، وكيف يرضخ الجيش الجزائري لتشكيل لجنة انتخابات نزيهة ومستقلة بحسب مواصفات ومقاسات المتظاهرين، وكيف توقف متظاهرو السودان عن رفع شعار طالما رفعه المتظاهرون العرب «الجيش والشعب يد واحدة»، كل ذلك يعطي الدفعة الكبرى للثورة في سوريا، بأن القبضة الأمنية لم تعُد كما كانت قبل الربيع العربي.

 

‏عزّز ذلك الموجة الثورية الثانية الآتية من مصر والعراق وغيرها من الدول، وتراجع الثورة المضادة في السودان والجزائر وتونس واليمن، وخسارة أرباب ومشغلي الثورة المضادة في جبهاتهم الخارجية والداخلية، عكس ذلك كله المظاهرات التي تطالب بمطالب الثورة نفسها يوم خرجت في مارس من عام 2011، وتعالي كل الفصائل على جراحاتها مع بعضها البعض، فعمدت إلى تشكيل غرفة «الفتح المبين» لصدّ عاديات الاحتلال وذيله في ريفي حماة وإدلب، وقدرتها على الصمود رغم الحملة العسكرية الرهيبة التي استمرت لـ 125 يوماً، لم يتوقع أكثر المتفائلين هذا الصمود الأسطوري.

من د. أحمد موفق زيدان

كاتب صحفي، سوري