1- خفق قلبي فرحاً عندما رأيت هذه الثمرة البيضاء الزاهية ذات الخدود الشهباء أو الوردية «حنبلاس»، فقد قذفت بي نحو أربعين عاماً أو تزيد عندما كنتُ أطوف بساتين تلك الجبال المطلّة على سواحل البحر الأبيض المتوسط وبَرّيّاتها المبسوطة بأشجار المتوسط القديمة، كما كنا نراها كثيراً على جوانب الطرق الريفية والمنازل القروية وحدائق بيوتنا الصغيرة في مخيماتنا الضاحية في ظاهر المدينة.

2- كنا نسميه حَنْبُلاس، ويقلبون النون ميماً «حنبلاس»، ويقولون إن أصل الكلمة حَبّ الآس، أو حبّ إلياس، والآس شجيرة دائمة الخضرة تنتشر في حوض البحر المتوسط لها قصة نرويها في تضاعيف هذا المنشور.

3- كانت تلك الحبة الزيتونية الحجم مما تشتهيه نفوسنا رغم أن طعمها لا يشجّع المبتدئ فيها ولا يرغّبه في مزيد،

إلا أن المرء عندما يعتاد عليها يطلبها رغم طعمها المتقبِّض العفِص الذي يمزج بين الحلاوة الباردة والمرار المكسور،

وأكثر ما تكون العفاصة في الثمر البرّي لا المهجّن الأهليّ.

4- وأطيبها ما كان قد تخلّص من الخضرة واستقر به البياض اللبَنيّ أو الموشّح باللون الورديّ إذ لا تكاد تشعر بمرارها،

ويكون لبّها هشّاً يذوب في فمك، وتبتلع معه بذوره الصغيرة البنية اللينة التي تمنحك شعور القرمشة بمضغها،

ولكننا لم نكن المخضرّة منها فنأكلها رغم عفاصتها، ولكننا نتورّط بشرب ماء كثير بعدها لأنها “تنشّف” الريق.

5- هذه الفاكهة الخريفية التي تظهر في التشارين في موسم قصير تتراصّ على شجيرات الآس كأنها عناقيد الكرز فترى جمالاً أخّاذاً يستلب اللبّ،

كما كان يأخذنا جمالها بأزهارها البيضاء العابقة التي تطوف عليها النحلات المجتهدات ويتنفّس فيها النسيم العليل، فتنتج عسلاً عطرياً طيباً.     

6- كنا ننافس الطيور من الحمام والعصافير في التقاط حباتها، وكثيراً ما كنا نخسر الجولة معها إلا في المنازل فقد كانت العائلات تحمي شجراتها لتقري به الجيران والضِّيفان.

حمبلاس

أوراقها زكية الرائحة

7– وأما أوراقها الصغيرة البيضاوية الشكل الدائمة الخضرة فهي زكية الرائحة أيضاً،

ولأنها طيبة الريح وحيّة خضراء ومجرّبة فإنها تستخدم في الطب الشعبيّ في علاج مغص البطن وتخفيف التهابات الصدر والنزلات التنفسية،

وقد أسرفت في أكل الحنبلاس لشدة لهفتي إليه حتى قمت في الصباح عن مغص شديد استعنت عليه بنقيع الميرمية الجبلية.

8- وكان بعضهم يجفف الورق في الظلّ، ويشربه شاياً ويقولون إنه نافع للسعال ولخفض سكر الدم؛

وكانت الأمهات ربما سحقن ورقه الجاف ثم يذْرينه على جلود الأطفال لعلاج الاحمرار والصماط في الفخذين،

فيبرّد عليهم الوجع ويظهر كأنه الحنّاء الخفيف، تخرج منه رائحة فوّاحة طيبة.

زيت ورقه مفيد لحالات الشلل

9- وزيت ورقه مفيد في التدليك لحالات الشلل خاصة، ويخللون به الشعر لعلاج تساقطه، كما أنه مطيّب عطريّ وصابون منظّف،

ويفيد في علاج حب الشباب وتقرّحات الفم، كما أن أوراقه ربما استخدموها في الطهي كورق الغار، كأنها تابل.

10- ولورقه خاصية عجيبة في امتصاص الغبار وتنقية الهواء

حيث إنه يستهلك معدلات عالية من ثاني أوكسيد الكربون،

كما أنها يتكيّف مع ملوحة التربة، ويعيش قرب البحار،

وينتشر شجره بفضل العصافير التي تبثّ البذور في الأنحاء التي تقع عليها.

11- ومع أنها سريعة الانتشار إلا أنها تتعرض الآن للانقراض

لأن الناس يستهلكون أغصانها بكثرة في تشكيل أكاليل المناسبات في الأفراح وفي الأتراح،

وأكثر ما كنا نراها في زيارات النساء لقبور العائلة حيث يغرزن هذه الأغصان في تربة القبور ولاسيما في الأعياد.

وأحسب أنها شجرة طيبة، ألا ترى أنهم اتخذوها وسيلة للوصل حتى في حال الرحيل، وكأنها جسر ما بعد الحنّون الأحمر!

من د. أسامة الأشقر

مؤرخ وروائي فلسطيني