بينما كنا في طريقنا لزيارة زاوية الهامل التي يؤمّها شيخ الطريقة الرحمانية الخلوتية مولانا الشيخ محمد المأمون مصطفى القاسمي ظهرت لنا من البعد أضواء بلدة عامرة يقال لها سيدي خالد،

فتذاكرنا مع مرافقينا أن الموجة الأولى من الجزائريين الذين وفدوا إلى دمشق وفلسطين بعد أسر الأمير عبد القادر الجزائري منتصف القرن التاسع عشر كان بعضهم من أولاد سيدي خالد؛

ثم ذكرت لبعض الرفاق أن هذا الموضع يضم مقام نبيّ عربيّ قديم ففوجئت الرفقة لهذه المعلومة الغريبة.

فهذا الموضع منسوب إلى خالد بن سنان العبسيّ،

وقد وردت فيه آثار عديدة في مصادر السنة النبوية وكتب الأخبار أنه نبيّ ضيّعه قومه،

وأن ابنته المحيّاة وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم مع قومها في السنة العاشرة للهجرة وهي عجوز كبيرة، وسألها رسول الله عن أبيها وأثنى عليه ووضع لها رداءه؛

وذكر له النسّابة الكبار أخباراً عن معجزاته مثل احتواء نار الحرتين حيث موضع حرة بني رشيد اليوم شرقي خيبر، وهي النار التي فتنت العرب حتى كادوا يتمجّسون، فدخلها وبدّدها،

وقتل طائر العنقاء الضخم الذي كان يختطف الأطفال ويقتل الوحوش فانقطع نسلها وانقرض جنسُها؛

وذكرتُ لهم أن حافظ المغرب الكبير أحمد الصديق الغماري له كتاب في إثبات نبوته سمّاه إتحاف الأذكياء بإثبات نبوة خالد بن سنان بين عيسى وبين سيد الأنبياء،

أو إعلام الأذكياء بنبوة خالد بن سنان بعد المسيح وقبل خاتم الأنبياء؛

وقبله كان للشيخ بركات بن باديس كتاب في إثبات نبوته سماه «مفتاح البشارة في فضائل الزيارة»؛

كما أن للشيخ عبد المجيد حبة كتاب يثبت نبوته سمّاه: «قيد الأوابد من حياة خالد»،

وقد قال في كتابه هذا أنه:

بحثٌ طريف نفيس بـــــــــــــــه *** كشفتُ عن ابن سنان الغطـــا

جمعت منَ أْخباره جملــــــــــــــة *** و محّصتها بالذكا و الحجــــا

وأثبتّ فيه نبوءتــــــــــــــــــــــه *** و فنّدتُ كل خلاف جـــــــرى

وهذا هو الحق ليس عليـــــــــــه *** التباس و لا يعتريه امتــِــرا

وقد اختلف في نبوة العبسيّ القدماء بين مثبت لنبوته وأكثرهم من أهل السير والأخبار،

وبين نافٍ لها وأكثرهم من أهل النظر والكلام، لأنه ليس بين رسول الله وعيسى بن مريم نبيّ يوحَى إليه،

كما أن الرسل يكونون من أهل الحضر والمدن والقرى الضامّة وليس من الأعراب الفدّادين: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم).

ولكن بعضهم خرج من ذلك بالقول إنه نبي لم يبعثه الله برسالة، أو أنّه حكيمٌ مصلح يكون بين قومه،

وقد كان داعياً إلى الحنيفية على ملة إبراهيم أو على منهاج عيسى عليه السلام، فقد كان يدعو إلى التوحيد ونبذ الخمر والميسر والزنا؛

والخلاف فيه شبيه بالخلاف على نبوة لقمان والخضر.    

يقوم هذا الضريح على ربوة في الضفة الجنوبية لمجرى وادي جدي الذي يفصله عن بلدة سيدي خالد،

وهو الآن داخل مسجد خالد بن سنان العبسي، ببلدية سيدي خالد غرب ولاية أولاد جلال، وما زال هذا المقام محل زيارة الآلاف لاسيما في ليلة 26 من رمضان كل عام.

ولا يعلم أحد سبب انتقال هذا «النبيّ» العربيّ من ديار عبس والحجاز أو جازان إلى الجزائر، وإن كان بعضهم يزعم أنه نبي أرسله الله إلى بلاد الأوراس،

إذ ظل الأمر مطويّاً أكثر من تسعة قرون حتى أظهره رجل مشهور عند أهل العلم بمنظومته السهلة في علم المنطق «السلّم المنورق في علم المنطق»

وهو الشيخ عبد الرحمن الأخضري وهو من منطقة الزاب التي يوجد فيها مقام ابن سنان -والأخضري من الفقهاء المشهورين بمحاربة البدع في القرن العاشر الهجري-

إذ أظهر الأخضري هذا المكان بطريق الكشف والتربيع، وأن النبي العبسيّ قد جاء إلى الجزائر بعد أن ضيّعه قومه،

ثم ضيّعه أهل هذا المكان قبل أن يظهر له في رؤياه الكاشفة، فعمّ الكشف في الأمصار وجاءه الزائرون من كل مكان،

وهم يرددون قصيدة الأخضري:

سِرْ يا خليلي إلى رسمٍ شغفـت به … طوبـَى لزائـر ذاك الرسم والطلـلِ

جـلّت شواهـدُه، عزّت دوائـره … ما خاب زائـره في الصبح والأُصُل

يلقَى الجواهر مَن يغشى مناكبه… يُعطَى الكرامة من يأتيه ذا وجل

إن النبوة قد لاحت شواهدها … كيف المحالة والأنوارُ لم تزل

في خالد بن سنان البدرِ سيدِنا… أخصّه بسلامٍ رائق حفل

لله ما حاز مِن عز ومن شرف… نال الرسالة يا ناهيك بالرسل

أنواره سطعت فوق الربى وبدت … على الفيافي وفوق السهل والجبل

وعلى كل حال فإن هذا مقام ظهر بالكشف والرؤى المشهورة عن بعض الصالحين،

والرؤى والمنامات الكاشفة عند القوم لا تعترف بالجغرافيا وإنما ترسم محلّ التجلّي،

ولطالما تحوّلت أمكنة ظهور هذه الرؤى إلى مقامات ظنّها الناس لطول الزمن أضرحة لشبه عمارتها بها.

من د. أسامة الأشقر

مؤرخ وروائي فلسطيني