د. أكرم حجازي، كاتب وباحث أكاديمي، ومراقب لأحوال الأمة، وقضايا العالم الكبرى

السؤال الثاني: ( الولاية)

هل تؤسس تركيا لمرجعية إسلامية بمواصفات دولة؟

 «أنتم هنا في عاصمة العالم»! عبارة يرددها مرشدو السياحة في اسطنبول على مسامع الزوار المسلمين وغير المسلمين.

هذا ما سمعناه وشاهدناه من عظمة الإسلام في زمن الخلافة. وهذا ما يسلب ألباب الزوار لاسيما حين يتسمرون أمام مشهد فتح القسطنطينية أو حين يتنقلون ما بين قصر وقصر في منطقة توب كابي وأنحاء المدينة فضلا عن قصور السلاطين الضخمة والمساجد العظيمة، لكأن الزائر لا يرى إلا مدنا عثمانية شامخة،

والأهم من ذلك تراث الخلافة الإسلامية

الذي يُمكّن كل مسلم من معاينة بعض ميراث الرسول والصحابة الكرام وقادة المسلمين عبر التاريخ،

بل وملامسة عروش الأباطرة والقياصرة. كلها مشاهد تضع المسلم في تواصل مباشر مع التاريخ والحدث الإسلامي الذي ينبض بالحياة منذ البعثة النبوية وإلى يومنا هذا.

 أيا كانت المواقف والتقييمات الظاهرة أو الباطنة تجاه الدولة العثمانية فإن الموقف الثابت لدى «الحدس» أن سؤال التاريخ لا يمكن أن ينفصل عن سؤال المصير.

إذ أن عاصمة العالم، ما زالت حاضرة في الذهن والإدراك بكل تفاصيلها كآخر حواضن الخلافة الإسلامية،

ومهما طالت القطيعة التاريخية فإن تراث الأمة سيظل مهوى فؤاد كل مسلم.

وأن كل مسلم له منه سهم كامل، غير منقوص، في الحقوق الدينية والروحية والتاريخية والحضارية والمادية

كما له سهمه في تراث مكة والمدينة والقدس وبغداد ودمشق والقاهرة وحتى الأندلس.

لذا فإن تركيا الجمهورية تتحمل أكثر من غيرها مسؤولية الانهيار

بنفس القدر الذي تتحمل فيه مسؤولية التداعيات المدمرة التي خلفها.

 قبل أن يشرع باحث مغربي في الحديث عن مكونات التيار الإسلامي لـ«الإسلاميون الجدد في تركيا» يورد، بداية، خمس ملاحظات نقتبس منها ما يهم سياق السؤال.

وفي ملاحظته الأولى يقيم موقف التيار من مسألة الخلافة فيقول بأن هناك شعور لدى:

«أبناء التيار الإسلامي بكل مكوناتهم أنهم امتداد حقيقي وفعلي للخلافة العثمانية التي تمثل بالنسبة إليهم إرثا تاريخيا هاما من تراث الحضارة الإسلامية.

هذا الإرث التاريخي الكبير شكل -ومازال يشكل- حافزا قويا لأبناء هذه التيار،

شعروا ومازالوا يشعرون بضرورة الحفاظ على ما تبقى منه. فهناك إذن وعي كبير بهذا الإرث الضخم، وهناك طموح يوازي هذا الوعي بضرورة استعادته،

ومعه لا يتوانى بعض أبناء هذا التيار الإسلامي عن الإعلان بأنهم أحفاد الخلافة العثمانية التي تركت هذا الإرث التاريخي الكبير،

والذي ما يزال عالقا في ذاكرة كثير من رجالات التيار الإسلامي،

وما تزال تشهد عليه الأبنية العظيمة المنتشرة في كثير من مدن تركيا من مساجد وقلاع وقصور وأسوار.

لقد شكل هذا الإرث مصدر انبعاث النهضة الإسلامية، والشعور الإسلامي داخل المجتمع التركي.

 نحسب أن هذا التقييم صحيح إلى حد كبير حتى لو لم يكن تطبيق الشريعة هدفا ذو أولوية عند شخصية

مثل نجم الدين أربكان الذي يعطي الأولوية لتحرير تركيا من هيمنة أميركا والصهيونية العالمية.

فالحرية بالنسبة للتيار الإسلامي في تركيا، وفي غير تركيا، باتت تسبق أي حديث عن تطبيق الشريعة

التي تتعرض لحرب بأشرس أدوات القوة المادية وغير المادية في عقر دار الإسلام.

بطبيعة الحال ثمة فرق بين من هو قادر على تطبيق الشريعة ومن هو غير قادر على ذلك.

لكن الثابت أن كل الدول العربية إما أنها محاربة للشريعة أو أنها عاجزة عن تطبيقها،

وبالتالي ثمة حاجة ماسة، بداية، إلى متنفس يسمح، على الأقل، بالحديث عن الإسلام بشكل عام أو عن الحاجة إلى تنمية الحس الإسلامي

أو عن ضرورة التصالح مع الإسلام أو عن ثقافة إسلامية وصولا إلى القدرة على المطالبة بتطبيق الشريعة

بحيث تكون الأرضية ممهدة لاستقبال مثل هذا المطلب.

ودون ذلك فإن أية محاولة لتطبيق الشريعة قد تنتهي بفشل ذريع وحرب شعواء على الإسلام

خاصة وأن القوى الأجنبية والاجتماعية واللبرالية المناهضة لها، في أكثر الدول، هي في الواقع أقوى من الدول ذاتها.

ولهذا السبب صارت أغلب القوى الإسلامية تتفلت حتى من الدعوة إلى تطبيق الشريعة،

وغدت تجاهر بقبولها بالنظم الدولية وقوانينها خشية اتهامها بالتطرف والغلو! وكأن الدعوة بحد ذاتها صارت تهمة تستوجب الدفع والتبرؤ منها.

ولنا في أفغانستان ومصر وتونس والجزائر وحتى في العراق أمثلة حية ومثيرة.

 تركيا اليوم ليست هي الدولة العثمانية! ولا هي مستعدة للدخول في مواجهات مفتوحة مع الغرب أو حتى مع داخلها. هذا ما تعتقد به تركيا.

وعليه فليس من الحكمة مطالبتها بما يفوق طاقاتها أو يعرض طموحها ومشروع انبعاثها إلى مخاطر شديدة.

لكنها لم تقل أنها لا تريد أن تكون بقوة الدولة العثمانية أو بطموحها، ولم تقل أنها مع القطيعة التاريخية،

ولم تقل أنها كانت على صواب لما كان غيرها على خطأ، ولم تقل أنها تبحث عن مصالحها دون مصالح الآخرين.

 فمن عرف عاصمة العالم قبل عشرين سنة وعاينها اليوم يدرك حجم التغيرات الجبارة

التي وقعت في مستوى الحضور الإسلامي وخاصة العثماني بصيغته الإمبراطورية.

هذا يؤشر على أنه باستطاعة تركيا أن تستمع لغيرها أو أن تأخذ بعين الاعتبار الدعوات الإسلامية العربية

التي تتحدث اليوم، بداية، عن « الحكم الراشد» في الدول كمقدمة على طريق الخلافة.

وعلى النقيض مما هو شائع،

فالخلافة ليست دولة بقدر ما هي نظام حكم شرعي يمكن الوصول إليه

حتى بالصيغة الراهنة للعالم الإسلامي كما أمكن الوصول إليه سابقا دون عوائق تذكر،

فالفتوحات الإسلامية غيرت من أنماط الحياة ولم تلغ الدول ولا تدخلت في المجتمعات إلا بموجب ما تفرضه الشريعة من أحكام وشروط للحياة الإسلامية.

فإنْ لم يكن لمثل هذه الدعوات نصيبا من الحضور الصريح فلا معنى إذن لأية أطروحة تتجاوز بشريات الأحاديث النبوية عن عودة الخلافة أو فتح رومية

كما فتحت القسطنطينية إلا أن تكون مجرد فلسفات ومذاهب وضعية لا علاقة لها بالدين، وليس لها أي طموح يتجاوز الاحتياجات الدنيوية في أحسن الأحوال.

 السؤال هو: هل في حسابات «العثمانية الجديدة» ما يؤسس لمرجعية إسلامية بمواصفات دولة توطئ لانبعاث إسلام الخلافة؟ وهل تتحمل وحدها مسؤولية هذا الانبعاث؟

السؤال الثالث: ( الحماية)

 هل تتسع « إعادة تطبيع التاريخ » للعقيدة والقضايا العقدية؟

 يأتي الحضور التركي في المنطقة وسط تدخلات عنيفة وواسعة النطاق من قوى متعددة تستهدف بالدرجة الأساس الإسلام وعقيدة الأمة.

فالولايات المتحدة، عدا تدخلات حلفائها وأثيوبيا وإسرائيل، تدخلت عسكريا بشكل مباشر في الصومال وأفغانستان والعراق،

وتدخلت بشكل غير مباشر عبر بناء القواعد الحربية ومخازن الأسلحة الضخمة في البلدان العربية،

كما تتدخل عسكريا بين الحين والحين في اليمن والصومال والجزائر ومناطق أخرى كثيرة.

أما تدخلاتها الأمنية فهي حاضرة بكل ثقلها في أغلب الدول العربية.

 رغم تدخلاتها العسكرية في عديد ساحات القتال؛ ورغم طول فترة الحروب التي تخوضها

إلا أنها لم تستطع حتى اللحظة إعلان النصر ولو في ساحة واحدة. لذا فقد لجأت، بمعية الغرب والكنيسة، إلى تفعيل مواجهاتها مع الأمة عبر:

(1)

ممارسة نوع جديد من التدخلات يستهدف تحقيق اختراقات اجتماعية في كافة التشكيلات المؤثرة في النظام الاجتماع،

وإلى (2)

تفعيل التمردات الطائفية كما هو الحال في مصر والسودان ونيجيريا على وجه الخصوص،

بالإضافة إلى (3)

استنزاف عقائد المسلمين إما عبر الهجمات المتواصلة ضد الرموز الإسلامية في الغرب وإشاعة الكراهية أو ما يعرف الآن بـ«فوبيا الإسلام»،

وإما عبر علمنة مناهج التعليم وتفريغها من الحضور الإسلامي،

أو عبر تقديم الدعم اللامحدود للقوى اللبرالية المحلية في هجومها المتواصل على الثوابت الإسلامية وتغريب الثقافة ونمط الحياة.

 الغرب، بكل قواه السياسية والفكرية والدينية، يخوض اليوم حروبا ظالمة ضد الإسلام، عقيدة ورموزا، في كل الساحات بدعوى مكافحة الإرهاب،

وبشكل سافر لم تستثن رب المسلمين ولا رسولهم. ففي ديار الإسلام حروب متنوعة،

عبر التدخلات العسكرية والأمنية والسياسية والثقافية، ضد الأفراد والمجتمعات والدول والعقائد والوعي.

وفي ديار الغرب، حروب مباشرة ضد الدين والرموز الدينية والمعتقدات والمظاهر والسلوك والتفكير والعمل.

 لم تكن الدولة العثمانية وهي في أضعف حالاتها لتتخلى عن الإسلام ونصرة أهله ونبيه. ولم يكن الغرب آنذاك،

وهو في أوج صعوده ليتجرأ على الإسلام، بدعوى حرية التعبير، كما يفعل اليوم. هذه الصورة العدائية والاستفزازية ضد الإسلام قديمة قدم الإسلام ذاته،

وقد استحضر الداعية الإسلامي التركي فتح الله كولن إحدى وقائعها الحديثة، وذات الدلالة البالغة من رحم التاريخ العثماني،

حيث جاء فيها:

[كان العثمانيون متعلقين بدينهم حتى في أضعف أدوارهم. كانت هناك مسرحية قبيحة للكاتب الفرنسي «فُولتير 1694 – 1778»

يهاجم فيها رسولنا الحبيب . وكانت فرنسا تريد تمثيلها في المسارح في ذلك العهد الذي كان يطلق على الدولة العثمانية اسم «الرجل المريض».

ولكن هذا الأسد المريض عندما علم بوجود نية الهجوم على سيّده ونور عَينه زأَر ضدّ فرنْسا،

حيث أرسل السلطان عبد الحميد الثاني -المتَّهم بأنه السلطان الأحمر، حاشاه- بَرقية إنذار لفرنسا قائلاً فيها:

«قمتم بتمثيل هذه المسرحية التي تستهدف رسولي ورسول جميع المسلمين، فإنني سأثير جميع العرب وجميع المسلمين ضدكم».

كم كنّا نتمنى أن يملك العالم الإسلامي مثل هذا الوعي الشعور.

وقد أثارت هذه البرقية مَوجةَ ذعر في فرنسا بحيث أنها لم تستطع تمثيل هذه المسرحية على مسارحها.

وهنا أرادت إنكلتره تمثيل هذه المسرحية في بلدها، فأرسل الأسد الجريح بَرقيّة إنذار لها فأحجمت إنكلتره أيضا عن تنفيذ نيتها وتراجعت عنها] .

 صورة مماثلة ومثيرة لذات التحديات التي تتعرض لها المنطقة.

وتبعا لذلك فإن «نبض الشارع» سيتنوع ويتغير وتتأرجح مكانته وجوبا بحسب هوية الأحداث ودرجة خطورتها.

فلما كانت أروقة التنظيم الدولي ومؤسساته وعلاقاته مسرحا لوقائع العداء اليومية مع إسرائيل والغرب ذات مضامين سياسية،

كانت القضية الفلسطينية هي المعبِّر الوحيد والأبرز عن «نبض الشارع».

لكن وقائع العداء تغيرت وصارت ذات مضامين عقدية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991،

ولم يجد الغرب من عدو بديل وملائم غير الإسلام ليبرر استمرار حالة الهجوم عبر مؤسساته وأدواته وعقائده العسكرية والأيديولوجية قبل أن يظهر تنظيم القاعدة أواخر القرن العشرين.

 صحيح أن « القدس هي قرة عين كل مسلم»، هكذا يقول رجب طيب أردوغان رئيس الحكومة التركية. فهي قضية ذات محتوى عقدي، وصاحب «العمق الاستراتيجي»

يقول أيضا أن: «مصير إسطنبول لا يختلف عن مصير بغداد أو القدس أو الدوحة».

لكن هذا المصير المشترك لا شك أنه سيلقى ترحيبا متزايدا لدى «نبض الشارع»

كلما بدا له أن تركيا الأطلسية تتجه، مثلا، نحو التخلص من قيود الغرب في أفغانستان كما سبق لها وتخلصت من ضغوط أشد حين تعلق الأمر بالعراق.

والسؤال الأول:

 بما أن العامل الإسلامي يتنامى بقوة في سياسات تركيا الداخلية والخارجية بحسب تصريحات د. أوغلو؛ فهل سيكون للعقيدة وللقضايا العقدية حضورها الإيجابي في السياسات التركية

كما هي حاضرة سلبا في سياسات الغرب الذي جاهر بعدائه العقدي بتعبيرات صريحة وهو يتحدث عن حرب صليبية؟

أو هل ستكون العقيدة من بين محتويات «إعادة تطبيع التاريخ»؟

السؤال الثاني:

 من الطبيعي أن المنطقة لم تعد تتحمل الأيديولوجيات.

فالتجارب السابقة أثبتت أن كل القوى السياسية الكبرى تدخلت في المنطقة بحثا عن مصالحها.

لكنها لم تحقق مصلحة لأية حركة احتجاج وطني أو قومي أو إسلامي.

وقد راقبنا تصريحات رئيس الحكومة حين أوحى بأن العهد القادم هو عهد الشراكة الاستراتيجية

معلنا أن تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي إذا شنت إسرائيل أي حرب لها على غزة أو لبنان.

ولا ريب أن مثل هذه التصريحات تلامس « نبض الشارع»،

لكن ألا تخشى تركيا من أن تفسد التدخلات الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة عمقها الاستراتيجي؟

د. أكرم حجازي

من د. أكرم حجازي

كاتب وباحث أكاديمي، ومراقب لأحوال الأمة، وقضايا العالم الكبرى