د. أكرم حجازي، كاتب وباحث أكاديمي، ومراقب لأحوال الأمة، وقضايا العالم الكبرى

السؤال الرابع: (الردع)

 هل ستخرج تركيا من حالة الدفاع إلى الهجوم؟

 لم يكن الصراع بين السنة والشيعة باديا للعيان، بمثل هذا الوضوح، قبل الاحتلال الأمريكي لأفغانستان (2001) والعراق (2003). لكن الصراع ليس وهميا ولا هو مجرد فتنة بين طائفتين كما يرى البعض. بل هو صراع حقيقي مكتمل الأركان منذ زمن بعيد، وقابل للاشتعال كلما توفرت أسبابه. كما أن له بيئته ومنطقه التاريخي وتحالفاته وآلياته ومضامينه ومظاهره وضحاياه. وحين النظر في بيئة الصراع، كركن مميز من أركانه، سنلاحظ وجود طائفتين من أهل السنة تقع مواقفهما من إيران على طرفي نقيض:

 طائفة المناهضين الذين يحذرون من مشروع صفوي ضد السنة حيثما كانوا. وهؤلاء هم أولئك الذين يتشاركون العيش تاريخيا في الحيز الجغرافي مع نسبة لا بأس بها من الشيعة كما هو الحال في السعودية والعراق ولبنان والكويت والبحرين واليمن والباكستان وأفغانستان ومناطق أخرى مشابهة.

 طائفة المتعاطفين مع إيران وحزب الله. ففيما عدا نفر محدود جدا عبّروا عن مخاوف جدية لديهم، بعد احتلال العراق، مما أسموه بخطر التمدد الشيعي فإن مواقف عامة السنة في بلدان سنية المذهب وشبه خالية من التواجد الشيعي مثل مصر والشام والمغرب العربي، تبدو أبعد ما تكون عن الاعتقاد بأية فتنة أو الشعور بخطر شيعي يتهدد معتقداتها.

 هذا الانقسام بين السنة تجاه إيران لا يحدده فقط مستوى الوعي الناجم عن احتكاك المذهبين السني والشيعي في حيز جغرافي معين. لكنها المصالح التي تصاغ بموجبها المواقف السياسية والتضامنية في العالم العربي بعيدا عن أية مؤثرات عقدية إلا ما تستوجبه الحاجة. وفي ضوء هذا المعيار، فقط، استطاعت إيران النفاذ إلى قلب العالم السني لا لتجد أصدقاء وحلفاء لها فحسب بل من يجيز التعبد بالمذهب الشيعي ويبرر لها الحق في نشر مذهبها بين السنة.

 هكذا يمكن ملاحظة قسم من الأمة ترتبط مصالحه مع إيران خاصة إذا ما تعلق الأمر بإسرائيل، لكن دون أن يتخلى عن حدسه تجاه إيران. وثمة قسم آخر لا يرى في إيران إلا عدوا عقديا لا تقل عداوته للإسلام عن عداوة أمريكا وإسرائيل وحلفائهما له. هذا القسم يعبر عن مخاوفه من اختراقات عقدية شيعية ذات مواصفات صفوية في ضوء:

(1) التاريخ الشيعي الذي لم يشارك بفتح إسلامي ولم يدافع عن الأمة بقدر ما خذلها وتحالف مع الأعداء ضدها،

وكذلك (2) الخلاف العقدي الواقع في صميم أصول الدين وليس في الفروع كما يروج البعض،

و(3) بغض الشيعة الشديد للصحابة ولأمهات المؤمنين،

و(4) جهود التشيع التي تدعمها إيران في العالم[23] السني،

و(5) النبرة العنصرية للإعلام الإيراني وهي تعظم من شأن النزعة الفارسية المعززة بنزعة الثأر من العرب المسلمين الذين أطاحوا بالإمبراطورية الفارسية،

فضلا عن (6) الدور الإيراني الذي يفاخر بالتعاون مع الولايات المتحدة على إسقاط دولتين إسلاميتين.

 يغلب الظن على الكثيرين من أهل السنة أن منطق التحالفات الإيرانية وجذر المشكلة يقع في نطاق المشروع الغربي الذي يستفيد من المشروع الإيراني في إثارة الفتنة بين السنة والشيعة محققا اختراقات ملحوظة. وهذا صحيح بدرجة كبيرة. أما الإيرانيون فيستفيدون بدورهم من المشروع الأمريكي عبر تخويف السنة وتقديم أنفسهم كمشروع مقاومة للأمة ضد الخطر الصهيوني مستغلين في ذلك حالة انعدام الوزن في العالم العربي. لكن المسألة تشبه بالضبط حالة الصورة في المرآة، وهي تبدو حقيقية، إلا أنها في الواقع معاكسة تماما. إذ يستحيل على العقل أن يتقبل المنطق الإيراني في لبنان بينما هو على النقيض منه في العراق وأفغانستان، علما أن العدو من المفترض أنه ذاته هنا أو هناك. فكيف يمكن تفسير العلاقات الحميمة بين إيران والولايات المتحدة في العراق وأفغانستان بينما تكون ذات العلاقات عدائية في لبنان؟

وتأسيسا على ذلك؛ ثمة من يقول بأن تركيا اليوم هي الوحيدة التي تقف في حالة دفاع. وليس في المنطقة من هو في حالة الهجوم سوى إيران وأمريكا.

هذا لأن إيران حضرت إلى المنطقة بمحتويات طائفية الأهداف واستفزازية في الأداء، بينما حضرت الثانية تروم مصالحة مع التاريخ. لكن « نبض الشارع» ليس معنيا بقراءة الحضور التركي تجاه الفارسية إلا في ضوء التاريخ ابتداء من عهد السلاجقة وانتهاء بالعهد العثماني وعظمة الدولة الإسلامية آنذاك، وكيف تصرفت حين كانت الصفوية تطعن في خواصر المرابطين على أبواب فيينا، حاضرة أوروبا آنذاك، بل حتى وهي في حالة ضعف.

 السؤال:

حين يشعر المسلم السني بالخطر على عقيدته سواء من الغرب أو من إيران ذات المواصفات الصفوية فإنه قطعا لا يمكن أن ينظر إلى تركيا إلا بمنظار تاريخي سواء حضرت إلى المنطقة أو لم تحضر. لكن حين تحضر فمن المؤكد أن هذه النظرة لن تجد لها موضعا في «الحدس» إلا وفق المعادلة التي تقول بأن تركيا، بصيغتها العثمانية القديمة أو بصيغة العثمانية الجديدة، هي الوحيدة القادرة على الردع وإعادة التوازن إلى المنطقة. فهل في مصالحات تركيا، مع نفسها وتاريخها، ما يجعلها تضع في حسبانها هذا «الحدس» فتخرج من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم؟

السؤال الخامس: (الواقع)

 على مَنْ تراهن تركيا؟

 انزوت العثمانية بصيغتها البنيوية العرقية في إطار الجمهورية بنسبة 70 – 80% من العنصر التركي.

بينما في العالم العربي تفككت التركيبة الاجتماعية في صيغة مجتمعات عثمانية الطابع ودول نشأت بموجب معاهدات استعمارية مزقت كل البنى الديمغرافية والجغرافية على السواء.

وبين «الانزواء» و«التفكك» وقعت القطيعة التاريخية، وألقت بظلالها على أداء القوى الإسلامية العربية وأداء مثيلتها التركية، متسببة في تمايز جوهري بين الأداءين.

 ففي تركيا الجمهورية جرت وقائع الصراع بين العلمانية والإسلام في مدى حيوي محدد المعالم والأهداف على مستوى الشخوص والرموز والأدوات والمؤسسات والجغرافيا والتاريخ. فهو صراع نشأ وظل واقعا في حدود تركيا القومية وليس ببلاد الترك عامة ولا بالبلاد العثمانية خاصة، وهو واقع داخل المجتمع التركي، ومن أجل هوية تركيا وماضيها وحاضرها ومستقبلها. لكن في العالم العربي فإن المدى الحيوي للصراعات كان،

ولمّا يزل إلى حد ما، واقع في رحاب «سايكس – بيكو» بين نخب الثقافة العربية وهي تبحث عن ذاتها وهويتها في نطاق عريض من الأفكار والأيديولوجيات والفلسفات الوضعية الوافدة.

وتبعا لذلك فالمجتمع والدولة بالنسبة للنخب العربية ظلا واقعين في رحاب الأيديولوجيات وليس في الواقع.

أما دول «سايكس – بيكو» فلم تكن منذ لحظة ولادتها لتعبر عن هوية ذات امتداد تاريخي أو ثقافي أو عقدي.

 المهم أنه حتى هذه اللحظة لا تبدو الدولة في العالم العربي، وفق « نبض الشارع»، تتمتع بأية حصانة تذكر. فلا هي على حصانة سياسية ولا هي ذات حصانة اجتماعية ولا وجود لحصانة اقتصادية أو علمية أو ثقافية أو تاريخية. أما لماذا؟ فلأنها دول هامشية صممت لتدور في المركز حتى لو كان بعضها يتمتع بمشروعية تاريخية أو دينية أو ثقل اقتصادي وديمغرافي.

لذا من الصعب ملاحظة شخصية من أي نوع وعلى أي مستوى إلى جانب شخصية الحاكم، مثلما يصعب ملاحظة عملية سياسية تنتهي إلى تداول فعلي للسلطة أو حتى مشاركة معتبرة. والأهم أن هذه الدول، المنزوعة من أي شكل من أشكال الحرية والطموح، ليست محصنة حتى على مستوى الجغرافيا. إذ أن انهيارها أو غزوها أو إعادة تقسيمها، بل وإعادة تشكيل المنطقة برمتها أكثر من وارد بالنسبة للقوى الأجنبية المهيمنة.

ولملاحظة نماذج حية على غياب الحصانة يكفي النظر إلى حالة العراق والصومال والسودان كدول مفككة، وأخرى مهددة بالتفكيك والحروب الأهلية. ونفس التوصيف ينطبق على النظم السياسية.

فما أن انهار النظام السياسي في الصومال، مثلا، حتى تفككت الدولة، وكذا نفس الأمر حصل في العراق. ومن أفلت من التفكك طحنته التهديدات والمخاطر والقفر والتخلف والحروب الأهلية.

 ومن المسلمات التي باتت أبرز سمات المنطقة أن منظومة السيطرة والتحكم التي صنعت «سايكس – بيكو» لا يضيرها سيادة أي شكل من أشكال النظم السياسية، الراديكالية وغير الراديكالية، طالما أنها تعمل بموجب أدوات النظام الدولي ومعايير العضوية فيه، بل أنها مستعدة حتى للتعايش مع نظم المقاومة التقليدية، لكنها لا تقبل بأدنى محاولة للخروج عن النظام أو السعي نحو التمتع بقدر من الحصانة يسمح بالمرور لبعض عناصر الحرية والأمن والاستقرار إلى رحاب المجتمع والدولة. ومن جهة ثانية فالنظام الذي تقع الدول العربية في إطاره وتحيى به هو نظام، بتأثير من الداخل كما الخارج، هو نظام متوتر وقابل فقط للصراع والتفكك أكثر مما هو قابل للتوحد أو اكتساب المناعة. لذا ليس غريبا أن تكون أكثر المصطلحات شيوعا في الخطاب السياسي والإعلامي والأمني وحتى الديني هي من قبيل تلك الأطروحات الموجهة إلى المجتمع، والداعية إلى التمسك بـ «الوحدة الوطنية» وتجنب «الفتنة»، والمحافظة على «الأمن والسلم» الاجتماعيين، والحث على «التسامح»، وضرورة «التعايش المشترك» بين المكونات الاجتماعية، والتجديد الدائم لـ «البيعة» والتأكيد على شرعية «ولاية الأمر»، و«حكمة الحاكم» و«الحكومة الرشيدة» … .

 إذن، وبخلاف تركيا، فإن المدى الحيوي العربي الذي يبحث عن مكوناته التاريخية وهويته، منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، عبر سلسلة من الأطروحات الأيديولوجية كـ«الوحدة العربية» أو «الوحدة الإسلامية» أو «الوحدة الإقليمية» أو حتى « الأممية» مفقود،

ولم ينجح في تحقيق أية صيغة تذكر من الاجتماع السياسي إلا باستخدام عناصر القوة المادية والمعنوية. بل أنه تراجع عن مستوى التفاهم والتنسيق البيني لصالح أضيق الأطر حتى فيما يتصل بقضايا المصير المشترك، فضلا عن انحيازه إلى تحالفات خارجية باتت، بالنسبة له، بمثابة المصدر الوحيد للأمن والشرعية بقطع النظر عن أية محاذير عقدية أو مصيرية.

 الصورة الرائجة عند «نبض الشارع» باتت تؤمن بأن الدولة وحتى القوى السياسية البائسة ومختلف النخب الاجتماعية لم تكن تمتلك أي مشروع على مستوى الأمة، ولا هي قادرة على امتلاكه أو تقديم البديل.

ولعل الأمر الأكثر استفزازا لـ«نبض الشارع» حين يرى أن هذه القوى لم تعد معنية بأكثر من البحث عن مصالحها وامتيازاتها أو الحفاظ على ما لديها مما تعتبره مكاسب ومنجزات حتى لو تعلق الأمر بالاعتقاد وبأخطر مسائل الأمن القومي والمصير الغامض. وهي صيغة عجز غير مسبوقة بهذا القدر والمضمون تشترك فيها الدولة والقوى السياسية المعارضة بنفس المقدار من المسؤولية. باختصار ثمة سلطات حاكمة ومكاسب لكن ليس ثمة دول!

 والسؤال: إذا كانت تركيا تشعر بعد عقود من الصراع أنها على وشك الاستقرار، وعلى قدر من القوة إلى الدرجة التي ترى فيها أنه آن الأوان للبحث عن عمقها الاستراتيجي؛ فهل يمكن لهذه النظرية أن تصمد في المنطقة دون أن يكون لها أثر، ملموس، في واقع دول ومجتمعات تشعر بانعدام الوزن فضلا عن أنها تعيش حالة من التمزق والاستنفار الدائم؟ باختصار: على مَنْ تراهن تركيا؟

النصيحة

 إذن لدينا خمسة أسئلة على الأقل عن

(1) الهوية

و(2) الولاية

و(3) الحماية

و(4) الردع

و(5) الدولة.

ولعلنا نشعر حقا بوجود مشروع ضخم لدى تركيا.

وندرك أنه ليس من الحكمة أن تكشف تركيا عن كل أوراقها خاصة في لحظة الصعود إلى القمة.

لكن مثل هذه الأسئلة، ذات الطابع المصيري، والمستوطنة في أعماق النفس الإسلامية، هي التي ستلاحق الحدث التركي بلا هوادة، وهي التي ينتظر « نبض الشارع أو « الحدس» الإجابة عليها، وهي الكفيلة بإعادة «تشكيل الرأي العام». وقبل ذلك من الأهمية بمكان التأمل في الملاحظات الأربع أدناه:

 وجوب التمييز الصارم بين القدرة على تحقيق اشتباك فعلي في العلاقة مع الجمهور عبر توظيف أكبر قدر ممكن من عناصر القوة وبين تقييم العلاقة في ضوء الاستجابات النفسية الناجمة عن فعاليات الدبلوماسية التركية. (هذا يعني أن تركيا مطالبة بالحذر).

 أي اشتباك في العلاقة لا بد وأن يجري استثمارها عبر إنجازات قصيرة المدى بحيث تستجيب لـ« نبض الشارع» وتضمن تفاعله بما يكفي لاستمرار منح الثقة. (الرقابة على الحدث التركي).

ضرورة أن يتخلى الطرفان العربي والتركي، بمختلف تشكيلاتهما الأفقية والرأسية، عن أية صيغ علاقات ذات طابع أيديولوجيي كتلك التي ميزت العقود السابقة. (مصداقية الحدث التركي).

 أية شراكة استراتيجية بين الجانبين لن يكون لها حظّ من النجاح ما لم تؤسس على وحدة قضايا المصير المشترك وليس فقط على المصالح المشتركة. (فعالية الحدث).

د. أكرم حجازي

من د. أكرم حجازي

كاتب وباحث أكاديمي، ومراقب لأحوال الأمة، وقضايا العالم الكبرى