د. أكرم حجازي، كاتب وباحث أكاديمي، ومراقب لأحوال الأمة، وقضايا العالم الكبرى

حتى نعرف الفرق بين الاستبداد والإسلام؛ لنجري مقاربة سريعة بينهما لمعرفة حدود كل منهما، وخاصة فيما يتعلق بحمولتهما، واتجاهات إفراغ هذه الحمولة. لنعرف، حقا وقولا وفعلا، ما إذا كان لمستبد أن ينكر الحقيقة الساطعة أو يزعم أن له القدرة على الدفاع عن نفسه، أو يملك الحق في ادعاء التقوى حتى لو تعلق بأستار الكعبة أو سجد في جوفها. فما هي حدود الاستبداد وفعالياته؟ وما هي حدود التقوى وفعاليته؟

فعاليات الاستبداد وحدوده

لا تتجاوز أهدافه وفعالياته أمن النظام في الداخل. لذا؛ فمن المستحيل أن تتجاوز فعالياته، بحق العامة، دوائر الانتهاكات من الاضطهاد والقتل والهدر والنهب والظلم والاستعباد والقهر وكل صنوف العذاب والتعذيب. بل والأعظم من ذلك أنه لا يرى غضاضة في تعميم وحشيته على الأفراد والجماعات، حتى لو كان المتهم فردا واحدا.

وتبعا لذلك؛

لا يمكن الحديث عن حقوق أو حريات أو عدالة أو فضائل أو قيم أو أية روادع أخلاقية أو عقدية أو حتى إنسانية. فكل المنظومات الزجرية، أو الناظمة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ ولو صوريا، تقع خارج حساباته إذا ما تعلق الأمر بأمن النظام، وخاصة بأمنه الشخصي.

في ظل حكم الاستبداد؛

لا يمكن التفكير أو السعي لامتلاك أدوات القوة من علم أو معرفة أو حقيقة أو صناعة أو تجارة أو حتى مجرد التفكير بما يتجاوز حدود الأمن، بقدر السعي لتحالفات أمنية مع الخارج، أو الحرص في الداخل على امتلاك أعتى أدوات القمع والاضطهاد العنيفة من أجهزة أمنية وعسكرية وميليشياوية، وإسباغ الطابع الأمني على الأجهزة السياسية والإدارية والإعلامية والثقافية والتربوية والاقتصادية التي تتحكم بوعي الناس وحقوقهم ومصادر رزقهم ووسائل عيشهم ونمط حياتهم وحدود تفكيرهم.

تشريع الاستبداد

وبكل وسيلة ممكنة، تحرص نظم الاستبداد على ديمومة حكمها وتشريعه دستوريا، واجتماعيا، ودينيا، وثقافيا، وإعلاميا، وتربويا. ولضمان استمرار الشرعية، تجتهد هذه النظم في منع ظهور أية رموز اجتماعية أو دينية أو سياسية أو ثقافية أو علمية وحتى اقتصادية، بحيث يبقى المجتمع فاقدا لأية مرجعية إلا من بوصلة النظام وعظمة المستبد وتفرده وعبقريته. لهذا لم يكن غريبا أن تخرج الاحتجاجات الشعبية بلا أية قيادة، مثلما لم يكن عجيبا أن يدعي النظام أن هذه الاحتجاجات مؤامرة تحركها أطراف خارجية. والأسوأ من هذا وذاك فرض الأطروحة الأمنية في مواجهة أي مطلب حقوقي أو حتى فطري. وكأن الأمة مجرد حشود من الهمج والأوباش الهائجة التي لا تنضبط إلا أمنيا.

شخصية المستبد

تهيمن عليها عقلية الأنا المنتفخة، والتي يغلب عليها الشعور الشديد في النقص، والتفاهة، والتملق، لمن هم أرفع من المستبد شأنا وقوة، واستبطان الانتقام والحسد والغيرة، والاستخفاف بكل المحرمات والمقدسات، وحصر كل حمولة الأمة بما فيها الدين والتاريخ والهوية والحضارة به شخصيا. فهو الأول والآخر. ولا شيء قبله ولا شيء بعده.

الهوية الأخلاقية للمستبد

من عجائب ما كشفته وسائل التواصل الاجتماعي ما يعرف بجيوش الذباب الإلكتروني. فعلاوة على جوقات المطبلين التقليديين من الإعلاميين، فقد ضمت نظم الاستبداد حشودا من اللقطاء، مثلما استعملت فكرة المعرفات الوهمية، لتلميع المستبد وسياساته وخياراته ورؤاه. ولعل أبرز ما تتميز به هذه الحشود هو التجرد من أية منظومة أخلاقية أو إنسانية، فضلا عن عدوانيتها. وهو نمط يعكس بشكل أو بآخر أخلاق المستبد نفسه بقدر ما يعكس أخلاق الذباب الإلكتروني ومنطق العبيد، سواء كانوا حكاما أو محكومين.

الاستبداد ثقافة

بقي القول أن الاستبداد، وإن تجلى رسميا في صورة الحاكم والنظام، إلا أنه ينعكس ثقافة، ليخترق الأفراد والجماعات والأحزاب والتيارات، بحيث تبدو مثلا المعارضة السياسية، بنخبها وقياداتها وأدواتها.. بمثابة الوجه الآخر للسلطة المستبدة، قولا وفعلا. ومن ثم يصيب الاستبداد حتى الأفراد، متجليا في العلاقات الاجتماعية بحيث يبدو كما لو أنه نمط حياة اجتماعي أليف.

فهل يستطيع المستبد أن يتنصل من هذه التوصيفات؟ بل؛ هل يستطيع أن يزعم أنه وفعالياته من أهل التقوى وحدوده؟ لنرى!

فعاليات التقوى وحدودها

بخلاف حدود الاستبداد الذي لا يجد ما يفرغ حمولته المتوحشة والمنحطة إلا في الداخل، فإن حدود التقوى تفيض عن احتياجات الداخل الاجتماعي والسياسي والجغرافي. لأن مرجعية التقوى مقيدة بحدود عقدية وشرعية. وهذه هي حدود «النحن»، المنزوعة الكبر والهوى والأنا، والمحصنة بالنظر والتفكر والتدبر والسمع والبصر والعقل والقلب والخشية، وهو ما تفتقده حدود الاستبداد تماما.

حمولة ثقيلة وفائضة لا يتسع لها الداخل

فالقرآن والشريعة والأوامر والنواهي والسنة النبوية والفقه وكل العلوم الدينية والتربية ونمط التعليم والحياة الاجتماعية، ثوابت من شأنها أن تفرز مجتمعا فصيحا بزاد لغوي يزيد على 40 ألف كلمة مقابل 500 كلمة، هي أقصى ما يمكن أن تتضمنه حدود الاستبداد اللغوية والمعرفية والاجتماعية.

هذا الزاد اللغوي الهائل للفرد، والذي لا نظير له في الأرض، يكفي للإحاطة بالأعراق والقوميات والأديان والفرق والسلوكيات والثقافات والبيئة والمناخ والتضاريس والبر والبحار والمسالك والطرقات والمخاطر وما بين السماء والأرض زاد لغوي.. 

يكفي ويفيض للإحاطة منهجيا وموضوعيا، فضلا عن العلوم الدينية، بالعلوم الدنيوية. فلا ريب أن التفاعل اللغوي وما يفرزه من تبادل للمعارف والخبرات سيؤدي قطعا إلى مراكمة للرصيد المعرفي، بما يسمح ببناء عقل علمي، ينفذ بسهولة وعزم إلى عالم الصناعات والاختراعات والاكتشافات من أوسع أبوابها، بل والتعامل مع المنتجات بحرفية، والعمل بدقة. عقل علمي.. يتحول إلى ثقافة ونمط حياة قادر بداية على استكشاف العلوم العسكرية وفنونها ومنتجاتها، مثلما هو قادر على الغوص عميقا في العلوم الطبية والبايولوجية والفلك والكيمياء والرياضيات والفيزياء والميكانيكا وعلوم البحار والزراعة والري، وكل ما يسهل الحياة، ويمكِّن من امتلاك أدوات القوة.

إنها ببساطة قمة العقلانية؛ التي توظف العلم والمعرفة في الحصول على أقصى ما يمكن من أدوات القوة والإعداد، تحسبا للخروج من جغرافيا إلى أخرى ومن أمة إلى أمم أخرى.

أهداف وجغرافيا التقوى؛

كما أنها قمة التقوى التي تأمل بإشاعة ما لديها من الخير في الأرض، من عدل وحقوق ومحاصرة للظلم والقضاء على الفوارق الاجتماعية والطبقية وتحرير للإنسان من عبودية البشر وسائر أدوات ومخازن الشر والأذى إلى عبودية رحيمة لا تظلم أحدا.

لذا، من الطبيعي أن تطل عقلية التقوى، ذات الرسالة الرحيمة والخالدة، على جغرافيا الأرض بمن عليها من بشر وحجر وشجر وماء وتضاريس ومناخ وبيئة، وبما لها من خصوصيات ثقافية وقيم وعادات وتقاليد وأعراف.

هذا بعض مما يخيف الأعداء من سرعة نهضة الإسلام وتسيده الأرض. فمثل هذه الحمولة المعرفية الهائلة لا تحتاج إلى عقود أو قرون حتى تتصدر القيادة وتتسيد العالم برمته.

بالمقارنة!

لنتخيل فقط ونتساءل، وهو واقع الاستبداد، ما الذي يمكن أن ينتجه زاد لغوي لا يتعدى، في أحسن أحواله، حدود 2000 كلمة، في مختلف مراحل التعليم؟ وما الذي يمكن أن تفرزه عقلية حصرت نفسها في حدود الأمن والخوف والبطش واستعباد الناس؟

لذا

لم يكن عجيبا أن يتولى الإمارة فتيان، أو يقود الفتوحات الإسلامية فتيان أو شبان أعمار أغلبهم تقل عن 25 عاما. كما لم يكن عجيبا أن يحاجج الأطفال العلماء والخلفاء والأمراء والسلاطين ببلاغة مذهلة.

العجيب هو أن يقود الإمارة اليوم من يوصف بـ «ولي الأمر»، بينما هو في الواقع لا يملك رصيدا من لغة أو عقل أو دين أو ثقافة أو علم أو معرفة أو هدف أو مشروع أبعد من الحدود الأمنية لشخصه وللنظام. والأعجب أن تتصدر شلل العلمانية واللبرالية والأيديولوجيات والملاحدة والنسويات والشواذ والرويبضة والعبيد الحديث في شأن العامة والدين، وتفتي بما يصلح للأمة وما لا يصلح، والصحيح وغير الصحيح، والصواب والخطأ!!!!

د. أكرم حجازي

من د. أكرم حجازي

كاتب وباحث أكاديمي، ومراقب لأحوال الأمة، وقضايا العالم الكبرى