غداً تحتفل الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها بالمولد النبوي الشريف، وتحيي هذه المناسبة كما في كل عام في الثاني عشر من شهر ربيع الأنور، الشهر الذي ازداد نوراً بمولد نور الهدى سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وازداد شرفاً بميلاد أشرف الخلق أجمعين، فلم يكن هذا المولد كمولد أي إنسان عادي، إنه مولد أمة بل مولد البشرية كلها، فيه نستلهم كثيراً من الدروس والعبر، لأن هذا الميلاد تبعته أحداث غيَّرت وجه التاريخ، فلو لم يولد لما كانت هذه الأمة، ولما كان لها حياة أو وجود في الدنيا والآخرة.

 

كان هذا المولد للأمة وللعرب على وجه الخصوص أعظم مِنْحة في مواجهة أصعب المِحَن التي كانت تكدّر حياتهم وعالمهم: فعلى قدر ما كانوا مستضعفين في جاهليتهم من الأمم الأقوى (الفرس والروم)، وعلى قدر طوفان الطبقية الذي أغرقهم والقهر الذي كسر قلوب غالبيتهم، وعلى قدر سوء الاقتصاد وسيطرة أصحاب المال على فقرائهم، على قدر هذه المحن كانت المنحة الإلهية لهم بمولد محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه رسولاً فيهم ومنهم، يعرفونه نسباً وحسباً وخلقاً وفضلاً، قال تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} آل عمران 164، فبدعوته وبسيرته وبتوجيهاته تبدلت حياتهم، وتنسموا هواء الحرية والعزة والكرامة، وحملوا مشاعل التغيير والنهوض بالبشرية كلها فأكرمهم الله بالسيادة والريادة فيها.

 

كان هذا المولد تحريراً للعرب والإنسانية كلها: فقد اختاره الله سبحانه وتعالى ليكون سبب فكاك رقابهم من العبودية وتحررهم من الرق والإذعان لغير الله، وكان به خلاصهم من نير الاستعباد والظلم والظلمات، فكان لهم المَوْئِلَ والمأوى والملاذ، فانطلق بهم من ظلام الجاهلية والجهل إلى نور العلم والعقل، وإلى ظلال العدل والإنصاف ورحاب الوحدة والألفة والمحبة بعد الفرقة والتنازع والاقتتال، فقد شملته العناية الإلهية وأهَّلته لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فانتشلهم هذا المصطفى الرسول من الهوة الساحقة السحيقة التي سقطوا فيها فرفعهم إلى قمم التحضر، ثم إنهم من بعده تقدموا بالبشرية وتقدموها وسادوها باتباع رسالته وشريعته ونهجه الوسطي بعيداً عن التزمّت والتكلف والتطرف، قال تعالى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} آل عمران 110

 

أما حياة اليُتْمِ والفَقْد للوالدين والجد التي عاشها صلى الله عليه وسلم فقد كانت درساً للصَّحْبِ وللأمة من بعده، فهذه المعاناة صقلت نفسه ونفسيته وشخصيته، فزكت فيه جذوة الإشفاق والعطف على المساكين واليتامى والحزن لآلامهم، كيف لا وهو الرحمة المهداة من الله والنعمة المسداة، قال تعالى فيه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} الأنبياء 107، وقال هو صلى الله عليه وسلم داعياً {اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين} رواه الترمذي، فالتربية الربانية التي تلقاها صنعت منه رجلاً صلباً وقائداً فذّاً أهلاً للمسؤولية متمسكاً بالرسالة راسخ الإيمان ثابتاً في مواجهة المصائب والمصاعب، فكان النبراس الذي يضيء الطريق ويكشف معالمها للأمة كلها من بعده، وكان المثل الأعلى لها، فانعكست هذه الميزات في شخصيات أبنائها وقادتها الذين تأسَّوْا به وبسيرته الطاهرة.

 

وإنه لدرس ثمين أن تتمثل الأمة أخلاق نبيها محمد صلى الله عليه وسلم: فمن يبحث في أخلاقه يجد نفسه أمام أعظم عظماء الإنسانية، فقد وصفه ربنا عز وجل بقوله {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم 4، فهل عرفت الإنسانية كمحمد صلى الله عليه وسلم في الخلق ؟ إنه الذي أحسنَ وما أساء، ووصلَ وما قطع، وأعطى وما حرم، وعفا وما ظلم، وخالق الناس بخلقه الحسن كل حياته حتى أتاه اليقين، هكذا كان قبل الرسالة وبعدها، في شبابه وفي مشيبه، مع الصديق ومع العدو، كانت أخلاقه أوسع من كل الحدود والقيود، علم الخلائق كيف تكون الأخلاق، فالأخلاق جزء مهم جداً من الشريعة والدين، قال صلى الله عليه وسلم [بعثتُ لأتمم صالح الأخلاق] رواه أحمد، وقال أيضاً [ليس المؤمن بالطَّعَّان ولا اللَّعَّان ولا الفاحش ولا البذيء] رواه الترمذي، فخير الأخلاق أخلاقه وأفضل الأعراف أعرافه لأنها ربانية المصدر.

 

وتأتي أهمية الأخلاق في الإسلام أنها أبرز ما يراه الناسُ ويدركونه من أعمال المسلم، فالناس لا يرون عقيدته لأن محلَّها القلبُ، وهم لا يرون كلَّ عباداته ولكنهم يرَوْن أخلاقه وسلوكه معهم، ويتعاملون معه من خلالها، فالخلق هو السَّجيَّة والطَّبع، وهو صورة الإنسان الباطنية، وبالنتيجة فهو هيئة راسخة في داخل النفس الإنسانية وفطرة تصدُرُ عنها الأفعالُ بتلقائية وسهولةٍ ويُسرٍ من غير حاجة إلى فكرٍ ولا رويَّة،، وهو عبادةً يؤجر عليها المسلم، وهو أساس الخيريَّة والتفاضل يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم [إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين فما المتفيهقون ؟ قال المتكبرون] رواه الترمذي، ولْنعلمْ أن الأخلاق هي المؤشِّر على استمرار أمَّة أو انهيارها؛ فالأمة التي تنهار أخلاقُها يوشك أن ينهارَ كيانُها.

 

وكانت البعثة النبوية درساً للأمة، فالله جل وعلا بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم للعالمين برسالة التوحيد، وأوجب على الناس الإيمان به واتباعه، وهذه عبرة قَيِّمة من عبر ميلاده صلى الله عليه وسلم، فقد جاءه الوحي بها وهو في غار حراء يتعبد ويتفكر ويتأمل، يرى تعاقب الليل والنهار، وحركات الشمس والقمر النجوم، ويراقب تنفس الصبح وبدء حركة الأحياء من جديد بعد ذهاب الليل واستيقاظ النائمين، فكانت اللحظة التي تشرَّف فيها بالرسالة والنبوة التي ابتدأت بقوله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} العلق 1-5، ثم جاءه التكليف بالتبليغ، قال تعالى {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} الشعراء 214.

 

ومن الحبيب محمد تتعلم الأمة بأجيالها المتلاحقة درس الثبات على المبدأ مهما عظمت التضحية، فقد جاء التكليف له صلى الله عليه وسلم بالرسالة بعد التشريف بالنبوة، قال تعالى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} الحجر 94، فانتقلت الدعوة من السرية إلى الجهرية، فكانت دعوته إلى التوحيد تحدياً قوياً وسافراً لقوم يعددون الآلهة ويعبدونها من دون الله، فواجه منهم حرباً ضارية ومؤامرات غادرة، وألَّبوا عليه القبائل وناله منهم ضرر بالغ كمن سبقه من إخوانه الأنبياء من الرسل فكان من أولي العزم، قال تعالى {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} الأحقاف 35، لكنه صلى الله عليه وسلم لا يتراجع ولا ينثني حتى أظهره الله وطوى صفحة الشرك والمشركين، فعل ذلك قومه به وهو ابنهم ومن جلدتهم فأين العروبة والقومية التي يتبجحون بها؟

 

إن ذكرى المولد النبوي الشريف موسم سنوي متجدد، ومحطة نقف عندها لنستحضر هذه المعاني وغيرها، فإن لنا في مسيرة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سيرته المطهرة أسوة حسنة ومرجعية أساسية، ولنا فيها فوائد وعبر جليلة وكثيرة لا تعد ولا تحصى علينا أن نتدبرها ونستفيد منها، فهي بإذن الله ستعيننا على تجاوز نكباتنا ونكساتنا وانكساراتنا وإخفاقاتنا، فسنجد فيها الحلول لمشاكلنا وأزماتنا، فحريٌ بنا جميعاً أن نقتفي أثر نبينا ونتأسى بأقواله وأفعاله وعزمه وجهاده وأخلاقه، وعلى كل فرد أو جماعة منا -وبالأخص المربين من الآباء والمعلمين- أن ينشروا عطر السيرة النبوية بالقول والفعل والتعامل والسلوك أينما حلوا، فهم بذلك سيكونون خير رسلٍ وخير سفراء لها.

د. تيسير التميمي

من د. تيسير التميمي

قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس