أظلنا شهر ربيع الأنور، وأظلتنا ذكرى مولد الهادي الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وسيحتفل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بهذه الذكرى العطرة في ظل وحدة ممزقة وأوصال مقطّعة، وستحتفل القدس ومسجدها الأقصى المبارك وأهلها بالدموع والدماء تحت سنابك الخيول الغازية ورصاص البنادق الغادرة.
أما قصة المولد النبوي الشريف فقد انصرف عبد المطلب آخذاً بيد ابنه عبد الله حتى أتى به وهب بن عبد مناف وهو سيد بني زهرة نسباً وشرفاً، فزوجه آمنة بنت وهب وهي أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً، ثم إن آمنة حملت، روى ابن إسحق حديثها بأنها ما حملت حملاً قط أخف منه، وأنها أُتِيَتْ فقيل لها [إنك قد حملت بسيد هذه الأمة وآية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام فإذا وقع فسميه محمداً، فإن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في الفرقان محمد فسميه بذلك].
وضعت آمنة مولودها في يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل معتمداً على يديه رافعاً رأسه إلى السماء، فأخذه جده عبد المطلب فأدخله في جوف الكعبة وجعل يدعو الله ويشكره أن أعطاه محمداً بعد وفاة أبيه عبد الله، ثم أعاده إلى أمه آمنة، والْتمس له المراضع فاسترضع له حليمة السعدية التي حكت عما رأت في مَقْدَمِهِ من الخيرات والبركات.
ومن أول يوم رعى الله عز وجل هذا اليتيم وجعله في عين كلاءته وحفظه، قال تعالى {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُوم} الطور 48، فهيأه بذلك لما أعده له من كرامة ورسالة وشفاعة، فقد أظلَّته صلى الله عليه وسلم في طفولته إيحاءات نفسية شفافة مستوحاة من إيقاعات الأسماء التي تتردد من حوله، فأمه آمنة، وقابلته الشفاء، وحاضنته بركة، ومرضعته حليمة، وأبوه من الرضاعة الحارث، وأخوته من الرضاعة عبد الله وأنيسة والشيماء التي كانت تحضنه مع أمه حليمة إذ كان عندهم.
قالت أمه آمنة عنه [والله ما للشيطان عليه سبيل، وإنه لكائِنٌ لابني هذا شأن]، وقد صدقت؛ فقد كان لابنها صلى الله عليه وسلم شأن عظيم، فهو البشير الهادي والرحمة المهداة للعالمين، قال تعالى {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} المائدة 15-16
سأله أصحابه فقالوا (يا رسول الله أخبرنا عن نفسك؛ فقال [دعوة أبي إبراهيم و بشرى عيسى ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له بصرى (وبصرى من أرض الشام)] رواه الحاكم وصححه الذهبي، وتأويل دعوة إبراهيم عليه السلام قوله تعالى {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} البقرة 129، أما تأويل بشارة عيسى عليه السلام فهي قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} الصف 6
ولد صلى الله عليه وسلم في وقت ساد فيه الظلم ولم يُعرف فيه العدل، وكانت الإنسانية وبالأخص العرب في مرحلةً من أحطِّ مراحل تاريخها، حتى لقد صار الجهل والتعسُّف والاستبداد من أبرز ملامحها، ولا مكان للخير فيها. فكان أعظم مولد على ظهر الأرض، فتهاوت به أركان الظلم من عليائها، وانتشر العدل في أرجائها.
فما أحرانا ـ وقد غمرتنا النفحات الروحانية والمشاعر الإيمانية في ذكرى مولده صلّى الله عليه وسلّم ـ أن نحتفل بهذه المناسبة الشريفة حق الاحتفال: بكمال الاقتداء والاتِّباع، قال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} آل عمران 31، وما أحرانا في شهر نزول الرحمة الإلهية بالولادة المحمدية أن نقيم المولد الحقيقي في أرواحنا وجوارحنا؛ في مساكننا وأماكننا، وأن نجعل أعمارنا كلها ربيعاً يولد فيها حبّه صلى الله عليه وآله وسلم عملاً وقولاً. فقد قام صلّى الله عليه وسلّم بأمر الدعوة إلى الله عز وجلّ بالحكمة والموعظة الحسنة والعمل الدءوب، ففتح لها مغاليقَ النفوس؛ ومكّن لها في الأرض، وهذه سيرتُه العطِرةُ الشاملة بين أيدينا حافلةً بالجهاد والمجاهدة والصبرِ والمصابرةِ، وممارسةِ الحياة تحصيلاً للآخرة.
وحري بنا أن نجعل الذكرى مناسبة لطاعة أمره استجابة لقوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الأحزاب 36؛ فهذا النهي يعم كل تشريع صادر عنه صلى الله عليه وسلم، فإذا حكم فليس لنا أن نختار لأنفسنا غير حكمه فينا، أما رفض قضائه ومخالفة أحكامه وتعاليمه فمعصية وضلال أعاذنا الله عز وجل وحذرنا منها لأنها صفة المنافقين الذين يأبون الطاعة قال تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} النساء61، فالإيمان الراسخ دليله السمع والطاعة؛ قال تعالى {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} النور 51.
يحيي المسلمون في كل بقاع الأرض ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم، بالاستعراضات الكشفية أو بالمحاضرات والندوات والأعمال الأدبية، فهل هذا هو المطلوب منهم لإرضاء ربهم ونيل شفاعة نبيهم صلى الله عليه وسلم ؟
إن الاحتفال الحقيقي بهذه المناسبة العزيزة يكون بفقه سيرته العطرة والتأسي به، فالاقتداء به أكمل ما يكون الاقتداء ليس من المندوبات والنوافل، بل هو فريضة من فرائض الدين وأصوله، قال تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} الأحزاب21، فعلينا أن نقتدي به في عبادته ومداومته على طاعة الله تعالى وإكثاره من التضرع والدعاء إليه، ونقتدي به في رضاه وغضبه، وفي ثباته على دعوته وتمسكه بها رغم الضغوط والمغريات أو المساومة والمقاطعة، ونقتدي به صلى الله عليه وسلم في حبه أصحابه وحرصه عليهم، فقد كان يتفقدهم ويهتم بشؤونهم ويسأل عنهم حتى أن أحدهم ليظن أن ليس من هو أكرم منه عليه، فقابلوا حبه بحب إيماني فافتدوه بالمهج والأرواح في مواقف الشدة، وهانت عليهم نفوسهم وهم ينافحون ويَذُبُّون عنه الخطر في مواطن الجهاد، فآثروا حياته على حياتهم ونجاته على نجاتهم إلى حدٍّ أذهل الأعداء، يقول أبو سفيان بعد أن رأى هذا الإيثار بنفسه [ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحابِ محمدٍ محمداً].
نقتدي به في تأكيد القيم الوجدانية والشعورية؛ التي هي أصل العلاقات الإنسانية، وفي تأكيد السلوك الإيجابي البناء ولو عند انقطاع الأمل في الحياة؛ فلا يأس مع الحياة؛ قال صلى الله عليه وسلم [إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل] رواه أحمد. فالدين ليس عزلة عن الحياة بل هو الحياة التي يتكامل فيها العمل والعبادة؛ ويكون العمل فيها عبادة، فواجبٌ على الآباء أن يربوا أبناءهم على هذه المحبة الروحية والعاطفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي معيار صدق الإيمان القلبي، لأن محبته أكبر حافز على الامتثال لما جاء به. قال صلى الله عليه وسلم [فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده] رواه البخاري.
إن متابعته صلى الله عليه وسلم هي المحك الذي يتميز به أهل الحق والهدى من غيرهم، فمن نصح نفسه ورغب بفلاحها ونجاحها فعليه بالهدي النبوي ليدخل في أتباعه وشيعته وحزبه، قال تعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} المائدة 55-56.
وإننا إذ نُحْيي ذكرى رسولنا الحبيب صلّى الله عليه وسلّم في يوم مولده الذي يظلنا ونحن في أضعف أحوالنا أمام من يتربص بنا، ندعو أنفسَنا إلى نقلة نوعية في الفكر والعمل والسلوك، وإعلان الخطوة الحازمة لبناء أنفسنا ومجتمعنا من جديد، ندعو أنفسنا إلى الاستيقاظ والنهوض من سبات الغفلة والانغماس فيما لا يجدي، ندعو أنفسنا إلى نفض غبار النوم والوهم والوهن عنا لنمضي في طريق الحرية والوحدة والتماسك والقوة؛ وإلاَّ فسنبقى كما نحن مستضعفين تتداعى علينا أهون الأمم وأضعفها فنستحق وعيد الله تعالى {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} محمد 38.
- د. تيسير التميمي يكتب: «واذكروا الله في أيام معدودات…» - يونيو 26, 2023
- د. تيسير التميمي يكتب: الحمد لله أن بلّغنا عشر ذي الحجة - يونيو 21, 2023
- د. تيسير التميمي يكتب: الصبر في المحن والشدائد - ديسمبر 14, 2022