التاريخ سلسلة طويلة من الأيام والشهور والسنين المليئة بالوقائع والأحداث، فيه محطات ومفاصل تغيِّر مساره وتجدد وجهته، وكان مولد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبرها وأبرزها، وقد غمرتنا قبل أيام نفحات روحانية ومشاعر إيمانية في هذا المولد الشريف، إنه ذكرى ولادةِ سيّد البرية الذي أرسله ربه عزّ وجلّ رحمةً بخلقه.
ولد صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي لا يُعرف فيه عدل على وجه الأرض فكان أعظم مولد، بفضله تهاوت أركان الظلم من عليائها، وتحطمت أنظمة الاستبداد فسقطت تيجانها، وأضاء إيوان كسرى واهتز عرش قيصر.
ففي يوم الإثنين الأغر، الثاني عشر من شهر ربيع الخير من عام الفيل ولد محمد بن عبد الله فعم نوره الكائنات والقلوب؛ قال تعالى {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} المائدة 15، ولعل هزيمة أبرهة الأشرم وهلاكه بجيشه في مكة المكرمة وفي رحاب البيت العتيق كان إرهاصاً لهذا الميلاد العظيم.
كان هذا مولد محمد الإنسان، أما النبوة والرسالة، فكان مولدها عندما أتم الأربعين من عمره، فقد اصطفاه الله لها ليكون للعالمين نذيراً وبشيراً، والله سبحانه لا يختار لحمل رسالته وتبليغها إلا من هو أهل لها، قال تعالى {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} الأنعام 124، وقال سبحانه أيضاً {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} الحج 75.
فقد جمع مكارم الأخلاق وجميل الصفات، فما عرفته قريش إلاَّ صادقاً أميناً؛ فرغم عداوة الدين والفكر والمعتقد استأمنه أهلها أموالهم وودائعهم؛ وإنه لأمر عجيب؛ أن يستأمنوه على مالهم ولا يستأمنوه على دينهم، لكنه العناد !
واختصه الله تعالى بما ليس لغيره؛ قال صلى الله عليه وسلم {أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل؛ وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة} رواه البخاري.
كيف لا وقد عصمه الله سبحانه وتعالى من كل إثم ومعصية من الصغائر فضلاً عن الكبائر؛ بل حتى من اللهو الذي عاشه شباب الجاهلية يروِّحون به نفوسهم؛ فلما حدثته نفسه في إحدى الليالي أن يشارك فيه ألقي عليه النعاس فما استيقظ إلاَّ وقد انفضَّ الجمع وتفرَّق المجلس.
وكيف لا يختار للرسالة وهو المصنوع على عين الله وبرعاية الله وتربية الله؛ فقد أدبه ربه وشرح صدره ورفع ذكره وأثنى على خُلُقِهِ؛ فقال فيه {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} سورة القلم 4.
كيف لا وقد حبب إليه الخلاء {فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها} رواه مسلم. وفي الغار أذن الله بالبعثة وجاء الوحي بالنبوة والرسالة؛ فتلقَّى الأمانة العظيمة وحمل المسؤولية الثقيلة؛ لقي خلالها ما لقي من مشقة؛ فقد قال لخديجة رضي الله عنها {لقد خشيت على نفسي قالت له خديجة كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا والله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق} رواه مسلم، ثم تتابع نزول الوحي عليه بعد ذلك فنزل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} المدثر 1-2. ثم جاءه الأمر بالتبليغ بقوله تعالى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ} الحجر 94، ثم واصل صلى الله عليه وسلم أداء هذه المسؤولية العظمى بلا هوادة أو تراجع؛ وكلما واجهه التعذيب والتكذيب والإعراض ازداد صلابة وتماسكاً وتمسكاً بالحق وثباتاً على المبدأ.
كثيرون مدحوه صلى الله عليه وسلم؛ لكن الله تعالى زكّاه؛ والتزكية منه سبحانه عالية وغالية جداً. فأولاً هو اليتيم الذي لم يتولّى رعايته أيُّ بشر؛ قال تعالى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} الضحى 6، فمنذ اللحظة الأولى لولادته كان أبوه قد مات ثم الجد مات؛ حتى الأم توفّاها الله؛ وأبو طالب الذي كفله ونصره مات عام الحزن؛ وكذا خديجة التي آزرته، فرعاه ربه حتى كان ربانياً يعدل أمة لو وزن بها بل يفوقها. سئل صلى الله عليه وسلم كيف علمت أنك نبي حتى استيقنت فقال {أتاني ملكان وأنا بمكة فوقع أحدهما على الأرض وكان الآخر بين السماء والأرض فقال أحدهما لصاحبه أهو هو قال نعم قال فزنه برجل فوزنت به فوزنته ثم قال فزنه بعشرة فوزنت بهم فرجحتهم ثم قال زنه بمائة فوزنت بهم فرجحتهم ثم قال زنه بألف فوزنت بهم فرجحتهم فقال أحدهما لصاحبه لو وزنته بأمته لرجحها} رواه الدارمي.
ثم هو الأمِّيُّ الذي علّمه ربه؛ قال تعالى {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} النجم 2-5، وهذا شرف الأمية عنده، جاءه أمين الوحي جبريل عليه السلام في الغار بقوله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} العلق 1-5؛ ففاق بذلك أرباب العلم لأنهم تلقوه عن البشر.
إن هذه العناية الإلهية بالرسول صلى الله عليه وسلم هي محض فضل من الله عز وجل؛ الذي أفاض عليه من عطائه وكرمه، فأخرج به الناس من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن؛ وقاد سفينة العالم الحائرة إلى شاطئ الله، وحوّل رعاة الغنم إلى سادة للأمم، صنعوا التاريخ وسطروا صفحات المجد.
هذا في الدنيا؛ أما في الآخرة فهو أول من يحييه ربه يوم البعث؛ قال صلى الله عليه وسلم {أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر} رواه الترمذي.
وهو صاحب الشفاعة العظمى والأولى التي تعم الخلق جميعاً بإقامة موازين القسط بينهم فيشفّع؛ قال صلى الله عليه وسلم {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول؛ ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً؛ ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو؛ فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة} رواه مسلم، فهذا هو المقام المحمود الذي وعد به؛ حيث يشتد الموقف على الناس يوم الحشر لما يجدون من لهيب الشمس وحرِّ العرق؛ إلاَّ مَن أظله الله بظله وأمَّنه بأمنه {فيأتون الأنبياء والرسل للشفاعة عند رب العزة؛ فيعتذرون؛ فيأتي الشافع المشفّع صلى الله عليه وسلم؛ فينطلق معهم فيأخذ بحلقة باب الجنة فيطرقها؛ فيقال من هذا فيقال محمد فيفتحون له ويرحبون به؛ فيقولون مرحباً فيسجد؛ ويثني على الله تعالى ويحمده؛ فيقال له ارفع رأسك وسل تُعْطَ واشفع تشفع وقل يسمع لقولك} رواه الترمذي.
ثم هو شفيع أمته لرأفته ورحمته بها وهي الشفاعة الثانية؛ قال صلى الله عليه وسلم {أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً} رواه الترمذي، فقد سئل صلى الله عليه وسلم {أيُخْرَجُ من النار بالشفاعة قال نعم} رواه البخاري، فإن من شهد لله تعالى بالوحدانية لن يخلد في النار أبداً؛ قال صلى الله عليه وسلم {أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون؛ ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة فجيء بهم فبثوا على أنهار الجنة؛ ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون} رواه مسلم.
وعلى الرغم من أننا لا نعرف في ديننا عيداً غير يومي الفطر والأضحى؛ لكن لنا أن تمتلئ قلوبنا في شهر المولد هذا فرحاً وغبطة؛ فقد عمَّتنا وغمرتنا رحمة الله تعالى بالولادة النبوية والبعثة المحمدية والدعوة الربانية. فحري بنا أن نتذكر في هذا الشهر العظيم وفي كل شهر، وفي هذا اليوم الشريف بل في كل يوم؛ رحلة الدعوة والرسالة في حياة محمد صلى الله عليه وسلم وما عانى في سبيلها وما حقق من نجاح في تبليغها للعالمين، واحتفاؤنا الحقيقي في هذه الذكرى أن بلغتنا رسالته وصدقنا دعوته فكنا من أمته. فصلاة الله وسلامه عليك يا رسول الله ويا خير خلق الله.
ولذلك فإنه جديرٌ بنا أن تحفزَنا هذه الذكرى المجيدة إلى تجديد العهد مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ بالسير على خطاه والاهتداء بهديه، وإلاَّ فلا معنى للهُتاف الدائم اللهُ غايتُنا والرسولُ قدوتُنا إذا لم يُحرّك فينا العزائم، ويوقِظ فينا الهمم للعمل، ويدفعنا إلى وقفةٍ واعيةٍ مع الذات، ومراجعةٍ جريئةٍ للحساب، تكشف لنا مكامن القوة والضعف فينا والخطأ والصواب، وتنقلُنا إلى عهدٍ جديدٍ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحملُنا على التقويم والإصلاح والعمل والمثابرة، لنجعل من ذكرى المولد النبوي الشريف مناسبة للتقييم، وبناء المشاريع التي ترفع راية الأمة، ولتكون محطة تاريخية مضيئة تدلنا على الطريق الذي أضعناه.
إننا إذ نُحْيي ذكرى رسولنا الحبيب صلّى الله عليه وسلّم في يوم مولده، ندعو أنفسَنا إلى نقلة نوعية في الفكر والعمل والسلوك، فقد علمنا أن اتباع هذا الدين هو قولٌ وعمل ومسلكٌ حسن؛ وإلاَّ فسنبقى كما نحن مستضعفين تتداعى علينا أهون الأمم وأضعفها، فالله عزّ وجلّ لا يغيّرُ ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم. ذلك هو برهانُ صدق الإيمان وعنوانُ صدق الإرادة والعزيمة، وإعلانُ الخطوة الحازمة لبناء أنفسنا ومجتمعنا من جديد؛ بل هو الاحتفال الحقيقي والاحتفاء والاقتداء بصاحب الذكرى، قال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} آل عمران 31.
- د. تيسير التميمي يكتب: «واذكروا الله في أيام معدودات…» - يونيو 26, 2023
- د. تيسير التميمي يكتب: الحمد لله أن بلّغنا عشر ذي الحجة - يونيو 21, 2023
- د. تيسير التميمي يكتب: الصبر في المحن والشدائد - ديسمبر 14, 2022