في ظل الاستبداد: تقزيم العمالقة، وعملقة الأقزام:

لأن الاستبداد مغتصب في الأساس، تستولي عليه:

فكرة أنه قد أوتى من الدهاء ما لم يتوافر لأحد، وأنه أوتى من قوة الشخصية، ما لا يخطر على بال إنسان، وتوهم أن الدنيا سوف تخرب إذا لم يستمر فى السلطة..

إلى غير هذا وذاك من أوهام وخيالات، لا تستمر بفضل وجودها،

وإنما بفضل ما يعتمد عليه المستبد عادة من أسلحة بطش وترهيب، قد تمنحه ضمان بقاء، لكنه في لا شعوره، يعرف معرفة يقينية،

أن وقتا سيجيء تنكشف فيه عوراته الاستبدادية، فيسعى جاهدا إلى ألا يوجد أحد غيره،

يتطلع إليه الناس باعتباره حكيم الزمان، وقاهر المكان، وفريد الولدان،

ويكون أحد وسائله في ذلك، ألا يشهد الناس عمالقة حقيقيين غيره، في كل مجال من مجالات الحياة المجتمعية:

السياسة، الفن، الاقتصاد، الثقافة، التعليم.. وغيرها.

هوة الغباء السياسي

وعلى العكس من ذلك، يقع في هوة الغباء السياسي، فيختار أقزام التفكير، والإدارة، والشخصية،

وتجييش أسلحة مختلفة، «للنفخ في صورتهم»، بحيث ينخدع الناس، فيتصورون أن القبة، تحتها شيخ كبير، وهمام عظيم،

لكنهم إن دققوا في الأمر جليا، وتنكشف الحقيقة المؤلمة، فوجدوا القبة تنكشف عن غير شيخ يرقد تحتها..

وعلى العكس من ذلك، حيث لا تخلو جماعة بشرية من عمالقة فكر وتدين وفن وسياسة واقتصاد، وغيره،

مثل هؤلاء، يلفونهم بظلام دامس، فلا تفتح أمامهم قنوات إعلام، ولا يصلون إلى مواقع يمكن لهم أن يبثوا أفكارهم من خلالها،

أو يتابع الناس ما يعملون، ويتفنون، ويبتكرون، فتنشأ أجيال لا تتعود قراءة والاستماع، ومشاهدة عمالقة في ميادينهم،

وإنما على العكس من ذلك، تتعود أعينهم رؤية أقزام يبثون تفاهات،

فتحرم أجيال وراء أجيال من أن تتغذى عقولهم على الإنتاج الفكري الراقي، سبيل التقدم الحقيقي،

ولا الإنتاج الفني الذي يرقق الأحاسيس، ويشنف الأذان، ويبث المشاعر الرقيقة، والأجواء ذات الروائح العطرية.

انظر إلى شخص ولد وعاش وسط بستان، يملأ الأجواء عطرا، والساحة جمالا،

وآخر قضت به الظروف أن يعيش بجوار مصرف للمجارى،

فماذا لو دفع بالأول ليعيش بجوار الثاني، كيف تكون حياته؟ ومدى البؤس والضيق الذي يهددانه؟

ولربما ضاق الثاني، لو حاول أحد أن يجره إلى العيش بجوار البستان..

ربما يصاب باضطراب، مثله مثل من يألف الاستبداد، فينظر إلى ما يفوح بالديمقراطية، وكأنه خطر على الحياة!!

إن الأمر هنا، بالنسبة لتنمية العقول، وإرهاف الحس، وتغذية الروح، أشبه بجسم إنسان، لا يجد أمامه ما يتغذى به إلا نوع واحد،

قليل القيمة الغذائية، بعيدا عن غيره، مما له ما يصعب حصره من مقومات الغذاء الصحي القويم، الذي يبث دماء صحة وعافية في الجسم..

وهكذا يشهد المجتمع المقهور، لا هزالا في صحته البدنية، ولكن هزالا في صحته الثقافية، وذوقه الفني،

فيتعود على الأفكار المسطحة، والأكاذيب التي تساق، على أنها حقائق، وحقائق، تسلط عليها غازات كذب، وتلفيق، وتجريف..

مما يفوق صور ومظاهر خسارة يمكن أن تلحقها حرب ضروس، يشنها عدو غادر..

النتيجة العامة

وتكون النتيجة العامة، تثبيت أركان الاستبداد، دون أن تهز القائمين عليه شعرة إحساس، أو لحظة يقظة ضمير،

بأنهم إذ يستبدون سلطة وحكما، يدفعون مجتمعهم إلى مهاوى التخلف، والمرض الاجتماعى، والقصور الحضارى..

مما يحتاج تعويضه، عند صحوة قادمة لابد منها، ما يكلف الجماعة الوطنية الكثير والكثير،

مما أفقدها إياها، مستبد غاشم، ومتكبر بائس التفكير، وطاغية قاهر لكل ما يحيى الشعوب، ويغرس زهور تحضر ورقى..

د. سعيد إسماعيل علي

من د. سعيد إسماعيل علي

خبير وكاتب مصري في المجال النفسي والتربوي،