مما لا ريب فيه أن ما قدَّره الله -عز وجل- على عباده ابتلاؤهم بالسراء والضراء والشدة والرخاء والأمراض والأوبئة والكوارث كل ذلك بتقدير الله  -سبحانه وتعالى-، فما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله، قال تعالى {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (التغابن: 11)، فمن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب، واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه، ويقينا صادقا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرا منه، فإن لله -سبحانه وتعالى- حِكَمًا فيما يقدره ويقضيه لعباده، وإن من حِكم الله -عز وجل- فيما قدر وقضى الابتلاء والامتحان، فيبتلي عباده -سبحانه- بأقداره ومنها ابتلائهم بالأمراض والأوبئة والفيروسات التي يقف الطب أحيانًا عاجزًا عن علاجها أو اكتشاف أسبابها ودواء لها، وما هذه الفيروسات التي نسمع عنها ما بين فترة وأخرى كفيروس كورونا وغيره والذي قضي على المئات من الناس إلا نوع من هذا الابتلاء والاختبار للعباد من الله سبحانه وتعالى.

 

فحكمة الله تعالى ثابتة في تقديره، وفي أحكامه، وهذا الامتحان للمؤمن في الدنيا، والابتلاء من أقدار الله، وما يكون من خوف ولا مرض ولا مصيبة في النفس ولا في المال ولا في الولد إلا وفيها لله حكمة، يُحذر فيها المؤمنين من الركون إلى الدنيا، ويعيدهم بالمصائب إلى طريق التوبة، والإقبال على الله، يبين لهم ضعفهم ليثقوا به، يبين لهم عوراتهم وعجزهم ليتوكلوا عليه، ليتعبدوا له بالدعاء؛ ليتضرعوا إليه إذا نزلت بهم مصيبة، أو حلت بهم شدة.

 

وأما الكافر فإن ما يصيبه دعوة لرجوعه إلى ربه مؤمناً، وكم من أناس كانوا كافرين فابتلاهم الله، فعادوا إليه، ووجدوا طعم الإيمان، والأمان في هذا الإسلام، قال تعالى  {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} (سورة الأنعام42).

 

فالواجب على المسلم أن يعتقد اعتقادا جازما أن ما يحصل في هذا الكون من خير أو شر؛ إنما هو بتقدير الله عز وجل، فهو سبحانه الذي قدَّر الأقدار وعلمها قبل حدوثها، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر:49)، وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد: 22- 23).

 

وهناك حقيقة غفل عنها الكثير وهي أن الأوبئة والأمراض تارة تكون تكفيرا لسيئات وقعت من العباد، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى:30)، وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41)، وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35)، وقال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: 168).

 

فالعباد كلما أكثروا من المعاصي كثر فيهم من الآفات الجديدة والطواعين التي لم تكن مضت في أسلافهم، فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يا مَعْشَرَ المهاجرينَ! خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ: لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ؛ حتى يُعْلِنُوا بها؛ إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا، ولم يَنْقُصُوا المِكْيالَ والميزانَ إِلَّا أُخِذُوا بالسِّنِينَ وشِدَّةِ المُؤْنَةِ، وجَوْرِ السلطانِ عليهم، ولم يَمْنَعُوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السماءِ، ولولا البهائمُ لم يُمْطَرُوا، ولم يَنْقُضُوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلا سَلَّطَ اللهُ عليهم عَدُوَّهم من غيرِهم، فأَخَذوا بعضَ ما كان في أَيْدِيهِم، وما لم تَحْكُمْ أئمتُهم بكتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ويَتَخَيَّرُوا فيما أَنْزَلَ اللهُ إلا جعل اللهُ بأسَهم بينَهم” ( صحيح الجامع: 7978) ، فظهورُ الأمراضِ والابتلاءاتِ في الأُمَمِ هو نَوعٌ من العُقوبَةِ التي يَضرِبُ اللهُ عزَّ وجلَّ بها الناسَ إذا كَثُرَ فيهم الفسادُ والمعاصي.

 

فما هو موقف المسلم تجاه هذه الأوبئة؟ هل يصح أن يدخل الأوهام، وأن يدخل الفزع في قلوب إخوانه؟ كلا، فإن المؤمن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، إن المؤمن يتعامل مع هذه المصائب بالتوبة، والتضرع إلى الله، وكذلك يتعامل معها بالحد من نشر ما يفزع إخوانه؛ لأن ترويع المسلم للمسلم حرام، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنام رجلٌ منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه، فأخذه، ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً” (رواه أبو داود :5004).

 

وكذلك يتعامل المسلم مع ما يصيبه من هذه الأوبئة والأمراض بما جاء في الكتاب والسنة من الأخذ بالأسباب؛ لأن الأخذ بالأسباب هو من صميم التوكل على الله تعالى، فعن عبد الله بن عباس: أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ -على حدود الأردن والسعودية قرب حالة عمار- لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إنِّي مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه، قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟! فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم، نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيبًا في بعض حاجته، فقال: إنَّ عندي في هذا علمًا، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” إذا سمعتُم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه” ، قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف؛ رواه البخاري (5729)، ومسلم (2219).

 

فعمر قدم بمن معه من الصحابة والتابعين للشام، فلما كان على مشارف الشام، ظهر طاعون عمواس، فاستشار عمر من معه ثم رجع، ولم يدخل الشام. (وهذا ما يسمى الآن بالحجر الصحي).

 

فالأخذ بالأسباب لا يُنافِي التوكُّل، بل هو من التوكُّل إذا كان من باب عمل الأسباب فقط، والشخص يعلم أنها لا ترد قدر الله، بل هي مِن قدر الله؛ فلذا قال الفاروق: نفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله، فسيد المتوكِّلين هو الذي أمرَنا أن نأخذ بالأسباب، ولا ندخل الأماكن الموبُوءَة.

 

وربما يظن البعض أن المرض لا ينتقل بالعدوى لما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة”، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيخالطها البعير الأجرب فيجربها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فمن أعدى الأول”،  فما هو الجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا عدوى ولا طيرة” (رواه البخاري ومسلم)، وبين حديث: إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها” ( متفق عليه)؟.

 

والجواب على ذلك: أن المراد بنفي العدوى في حديث: “لا عدوى” ليس نفي العدوى بالكلية، وليس نفي العدوى من أساسها، وإنما نفي الاعتقاد الجاهلي بأن المرض يعدي بنفسه، وينتقل بنفسه من غير تدبير الله وتقديره، وكان أهل الجاهلية يعتقدون بذلك.

 

والإسلام قد جاء بفضل الله بتدابير عدة في أمور الصحة منها على سبيل الذكر لا الحصر:

 

1- أن الله تعالى شرع لنا الطهارة قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المتطهرين} (سورة البقرة :222)، وقال تعالى: ” فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يتطهروا ” (سورة التوبة: 108)،  وفي الحديث الشريف:  “الطهور شطر الإيمان”،  فإذا كان المسلم يغسل أعضاءه خمس مرات تقريباً يومياً، وهذه الأعضاء الظاهرة والأطراف التي كثيراً ما تصيبها مثل هذه الفيروسات (كورونا) التي تسبب الإصابة بالأمراض، فإن غسل اليدين وكذلك الوجه، ومسح الرأس، وغسل القدمين، تجد في هذا من أنواع النظافة والتطهير بالماء سببا من أسباب الوقاية من مثل هذه الأوبئة، وهذا ما أوصت به منظمة الصحة العالمية.

 

2- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه ” (رواه أبو داود، وهو حديث صحيح)، وكذلك: “فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عطس غطى وجهه بيديه أو بثوبه وغض بها صوته ” (رواه الترمذي، وهو حديث حسن).

 

3- وعن الشريد قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: “إنا قد بايعناك فارجع” (رواه مسلم: 2231)، فكره النبي مقابلة المصاب بمرض معد.

 

وفي الختام أقول: أن أمام هذه الأوبئة يتبَيَّن لنا ضعف البشر، وقلَّة حيلتهم، فمهما أُوتُوا من تقدم في الطب، تجدهم عاجزين عن معرفة طريقة انتشار المرض، وإذا عرفوا الطريقة عجزوا عن إيجاد العلاج لها، ثم في نهاية الأمر يسلمون بالأمر الواقع، ويعلنون أن هذا الأمر أصبح وباءً عامًّا.

 

فعلينا في مثل هذه الأوبئة خصوصًا أن نفتش في أنفسنا، ونتوب إلى ربنا، ونُكثر من الأعمال الصالحة؛ فهي من أسباب دفع العقوبات الإلهية ورفعها؛ {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11].

من د. عصام مشاحيت

عضو الجمعية العلمية السعودية لعلوم العقيدة