تحدثنا في المقال السابق حول معنى الفتنة لغة واصطلاحا، وكذلك أنواع الفتن، وفي هذا المقال يدور حديثي حول أثر الفتن على الأمة فمنها على سبيل الذكر لا الحصر:

 

1- التفرق والاختلاف: مما لا ريب فيه أن من أعظم الفتن التي مرت بها الأمة فتنة البدع المغلَّظة التي أدت إلى ذهاب العقائد الصحيحة من واقع بعض المسلمين حتى وقع التفرُّق إلى جماعات وأحزاب وأفراد، وتعامى بعض الناس عن رؤية الحق وعلاماته؛ لأنهم إذا تفرَّقوا لا يصير لهم قدوة يقتدون به وإمام يأتمون به: ” كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ” (الروم: 32) يظنون أنهم على الحق دون من سواهم، وعامة الناس تبع لرؤسائهم.

 

فإذا تفرقت القلوب صار كل واحد لا يثق بالآخر، وتحول المجتمع إلى فرق وشيع وأحزاب وجماعات متناحرة تتنازعها الأهواء والعصبيات الجاهلية وقد يحصل بينهم من الشر والفساد ما الله به عليم.

 

وظهور هذه الفرق والجماعات والأحزاب أخبر عنها النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث العرباض بن سارية – رضي الله عنه – قال: وَعَظَنَا رسولُ اللَّه – صلى الله عليه وسلم – مَوْعِظَةً بَليغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُون، فقُلْنَا: يَا رَسولَ اللَّه كَأَنَهَا موْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا. قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوى اللَّه، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وإِنْ تَأَمَّر عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حبشيٌ، وَأَنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيرى اخْتِلافاً كثِيرا. فَعَلَيْكُمْ بسُنَّتي وَسُنَّةِ الْخُلُفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ، وإِيَّاكُمْ ومُحْدثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضلالَةٌ ” رواه أَبُو داود، والترمذِي وَقالَ حديث حسن صحيح.

 

فقوله صلى الله عليه وسلم: “فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا”، ما قال صلى الله عليه وسلم ” فسيرى اختلافا فقط، بل قال: ” كثيرا”، ثم أرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى ما ينجي من شر هذا الاختلاف، فقال: ” فَعَلَيْكُمْ بسُنَّتي وَسُنَّةِ الْخُلُفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ، وإِيَّاكُمْ ومُحْدثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضلالَةٌ”.

 

وكذلك حديث افتراق الأمة، فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ قَالَ الْجَمَاعَةُ ” (سنن ابن ماجة رقم 3982).

 

والمقصود بالجماعة هي ما كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه في العقيدة والعمل.

 

ولا شك أنه إذا تحول المجتمع إلى فرق وأحزاب وجماعات متناحرة يجعل المجتمع عرضة للانهيار في كل نواحي الحياة والانهزام أمام العدو الخارجي المتربص به، فيطمع فيه وفي خيراته ويدخل في شؤونه الداخلية، وقد يرتمي البعض في أحضان الأعداء ويتسبب في احتلال الأرض.

 

2- ضعف الإيمان والعلم والعبادة: لا شك أنه بتفرق الناس إلى أحزاب وجماعات يعقب ذلك ضعفٌ في الإيمان والعلم والعبادة، ويقل الخير في الأمة، فكل حزب يرى أنه على الحقِّ، وينفِّر ويحذِّر من غيره، وهذا سبيل إلى ضعف التديُّن في النفوس وضعف الأمة بعامتها حتى يكون الناس في أمرٍ مختلطٍ لا يتمكن فيه العبد من التعبُّد وإقامة شعائر الإسلام من كثرة هذه الفتن وآثارها؛ لأنهم ينشغلون بأسبابها ومسبباتها عمَّا خُلِقوا من أجله، وإذا ضعف الإيمان واندرس من قلوب المؤمنين حلَّ مكانه الجهل والهوى،  وقد يتحول الناس إلى قتلة فجرة مجرمين فالإيمان هو الذي يردع الناس ويحجزهم عن فعل الكثير من المخالفات أو استحلال الدماء والأموال والأعراض.

 

3- تباعد الأخيار وعلماء الناس: فمن آثار الفتن أيضا تباعد الأخيار وعلماء الناس، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ” (أخرجه البخاري رقم: 7088). ففي حال خوف المسلم على دينه لكثرة الفتن، بحيث إنه لو خالط الناس لا يأمن على دينه من أن يرتد عنه، أو يبتعد عن الحق، أو يقع في الشرك، أو يترك مباني الإسلام وأركانه فإنه يعتزل الناس ومخالطتهم امتثالا لهذا الحديث، وإذا اعتزل الأخيار من المجتمع بقي الأشرار، وإذا خلا المجتمع من العلماء والعبّاد والأخيار حلَّ بهم الدمار والهلاك؛ لأنهم تعرض لهم النوازل فلا يجدون من يحُلُّها لهم ويجيب عنها.

 

4- تسلُّط الأعداء: فعن ثوبان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يُوشِك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت”. (أخرجه أبو داود رقم: 4297).

 

وقد وقع هذا عبر التاريخ أكثر من مرة، عندما تداعت الأمم الصليبية إلى غزوة هذه الأمة، ومرة أخرى عند اجتياح التتار العالم الإسلامي، ولكن هذه النبوءة تحققت في القرن الأخير بصورة أوضح؛ فقد اتفق الصليبيون واليهود والملاحدة على هدم الخلافة الإسلامية، ثم جزؤوا الديار التي كانت تحكمها، وتقاسموا ديار المسلمين فيما بينهم، وأعطوا فلسطين لليهود، وأصبح المسلمون أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام، ولا تزال قوى الشرّ إلى اليوم متداعية لتدمير هذه الأمة، وامتصاص خيراتها، ونهب ثرواتها، وإذلال رجالها، والأمة الإسلامية خانعة ذليلة، لم تغن عنها كثرتها، غثاء كغثاء السيل، وعلتها كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: الوَهْن: حب الدنيا، وكراهية الموت.

 

وها هو التاريخ يعيد نفسه، ماذا يصنع في بلاد الشام؟ وماذا صنع في بلاد الرافدين وغيرها من البلدان، فمع هذا العدد الضخم للمسلمين (مليار ونصف مسلم) تَسَلَّط علينا من ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وهم اليهود؛ لأن الأمة ابتعدت عن دينها، قال صلى الله عليه وسلم: “إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ” (أخرجه أحمد (4987) وأبو داود (3462) وصححه الألباني في صحيح أبي داود).

 

5- تعطيل أحكام الشريعة: في ظل انتشار الفتن تتعطل الجمع والجماعات والأحكام والحدود، وتضيع الحقوق، وتنقطع السبل، وتنتهك الأعراض، وتنهب الأموال، وتزهق النفوس، وكذلك إذا انتشرت الفتن غابت العدالة وركب الناس الأهواء وكثرت الآراء والاعتداد بها وتجر الفتن أقواما إلى أفعال يندمون عليها فيما بعد، وتنتشر الأحكام الوضعية والعرفية. المخالفة للإسلام وكل ذلك بسبب انتشار الفتن بين المسلمين.

 

6- القتل بين الناس: فلا يدري القاتل لِمَ قَتَل، ولا المقتول لِمَ قُتِل، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ، فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: الْهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّار” (أخرجه مسلم رقم: 2908)، وقال صلى الله عليه وسلم: ” “إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار” فقلت: يا رسول الله هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟ قال: “إنه كان حريصاً على قتل صاحبه” (متفق عليه). فإذا وجدت الفتن شاع القتل بين الناس ظنا ووهما.

 

7- ومن آثار الفتن على الأمة أن يروج سوق الناعقين بالباطل وعلماء السوء: ولعل الواقع خير دليل على ذلك، فانظر إلى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة تجد هؤلاء الذين حذرنا الله منهم، فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت : تلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب”  قالت : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم ” ( متفق عليه).  فبعض الكتاب يستدلون بأشياء متشابهة، ولا يجمعون أطراف الأدلة في المسألة الواحدة، وهذا فعل أهل البدع كالمرجئة، حيث اعتمدوا على نصوص الوعد وأهملوا نصوص الوعيد، وكالخوارج حيث عملوا بنصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، فهؤلاء الكتَّاب تجدهم يتشبثون ببعض المتشابه من النصوص ويتركون المحْكَم.

 

8- ومن آثار الفتن وعواقبها على الأمة أنها إذا نزلت لا تخص الظلمة والمتسببين فيها فحسب، بل تعمُّ الجميع الصالح والطالح: قال تعالى: ” وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً” (الأنفال:25)، وفي الحديث الصحيح عن زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها غضبان يقول: ” ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بين أصبعيه السباحة والوسطى فقالت له زينب رضي الله عنها: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم إذا كثر الخبث” ( متفق عليه) . يعني إذا كثرت المعاصي عم الهلاك ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

العاصم من الفتن:

 

لا شك أنه لا عاصم من هذه الفتن إلا ما جعله الله تعالى عاصما منها، وهو كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن يريد النجاة من هذه الفتن فعليه بكتاب الله عز وجل؛ فهو المصدر الأول للهداية والنجاة من الشرور في الدنيا والآخرة.

 

وكذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تفسر القرآن وتبينه وتوضحه وتدل عليه.

 

فعلى المسلم في مثل هذه الظروف أن يعتصم بالكتاب والسنة تعلما وتدبرا وعملا بما فيهما، ففي ديننا – ولله الحمد – ما يكفل لنا الخلاص والنجاة والفكاك من الفتن والمحن.

 

هذا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

من د. عصام مشاحيت

عضو الجمعية العلمية السعودية لعلوم العقيدة