تتأكَّد الحاجة إلى هذا الاهتمام بسنن قيام الأمم عندما نُدرِك موقع الثقافة السُّنَنية والتفكير السُّنَني، والاعتبار بالسُّنَن في حياة الأُمم، كما يعرضها القرآن الكريم؛ فقيام الأُمَّة وبقاؤها يعتمد على عدد من المُقوِّمات، تقوم الأُمَّة بوجودها، وتضعف أو تنهار بغيابها، وهذه سُنَّة الله.
وقد حاول هذا البحث أنْ يربط بين السُّنَن التي يَلزم الاعتبار بها والقِيَم التي يَلزم الاستناد إليها في بناء الأُمم أو تجديد بنائها وضمان بقائها واستقراها. وقد تبيَّن لنا أنَّ نظام الاعتقاد -كما يتجلّى لنا في نصوص القرآن الكريم- يتكامل مع كلٍّ من نظام المعرفة، ونظام القِيَم. وتشترك هذه النُّظُم الثلاثة في تكوين رؤية كلية، تُنظِّم فكر الإنسان وسلوكه في ثلاثة عناصر من هذه الرؤية، هي: رؤيته لله الخالق، وصفاته، وأفعاله سبحانه. وتحتكم رؤيته إلى التوحيد؛ ورؤيته للإنسان وحياته ووظيفته، وتحتكم إلى التزكية؛ ورؤيته للعالَم الطبيعي والاجتماعي والنفسي، وتحتكم إلى العمران والاستخلاف والبناء الحضاري، فالتوحيد والتزكية والعمران هي منظومة قِيَم عُليا، تحكم الفكر والسلوك في حياة الفرد والجماعة والأُمَّة.
فسُنَن قيام الأُمَّة وبقائها تقوم على وحدتها واستقلالها المُستمَدَّين من تجلِّيات قيمة التوحيد، وتقوم على تماسك عناصرها في صفاء النفوس ومشاعر المودَّة، والتكافل المادي والمعنوي، وهو ما يُستمَدُّ من تجلِّيات قيمة التزكية، وتقوم على بناء النُّظُم والتشريعات وتنظيم العلاقات وتوظيف الطاقات المادِّية والبشرية في تيسير سُبُل الحياة وترقيتها، وهو ما يُستمَدُّ من تجلِّيات قيمة العمران المادي والمعنوي. ومن ثَـمَّ، فإنَّ منظومة القِيَم هذه هي معايير للحُكْم على تحقيق الإنسان مقصدَ الاستخلاف في الأرض.
وإذا كان ظهور الأُمَّة وبقاؤها، إنَّما يكون وَفق سُنَن إلهية، فإنَّ هذه السُّنَن تَتَّصِل اتصالاً مباشراً بكلٍّ من التوحيد، والتزكية، والعمران، بوصفها قِيَماً حاكمةً عُليا للوجود البشري، ويتفرَّع منها سائر مستويات القِيَم التي تحكم حياة الإنسان وفكره وسلوكه، ويتأسَّس عليها كل المُقوِّمات التي يقوم عليها بناء الأُمم.
وقد تبيَّن لنا أنَّ سُنَّة الله تعالى في قيام الأُمَّة وبقائها هي وحدتها، ووجودها المستقل عن غيرها، والمكتفي بموارده ومصادره التي تكفيه الضروريات والحاجيات والتحسينيات، دون أن يمنع ذلك من تعاون الأمة مع غيرها في المشترك من جلب المصالح ودرء المفاسد. لكنّ علاقة الأُمَّة بغيرها لا تقوم إلّا على شروط هذه الأمة وقراراتها. وسُنَّة الله تعالى في تماسك كيان الأُمَّة هي عمق مشاعر الودِّ والرحمة، وعلاقات التكامل والتكافل بين أفرادها، وقيام نظامها على حقِّ أفرادها في المشاركة في الرأي والقرار، وبسط العدل، وضمان الحرية.
وبناء الأُمم ليس مرحلة تـمرُّ بها الأُمَّة وتنتهي، فإذا كان البناء المادي يحتاج إلى صيانة بين الحين والآخر أو ترميم جذري في بعض الأحيان أو تنتهي صلاحيته تماماً، ليعاد بناؤه من جديد؛ فإنَّ البناء البشري لا يَسَعُه إلّا التغيُّر الدائم؛ إذ تستجدُّ الظروف الداخلية والخارجية التي تحتاج إلى التكيُّف معها أو مواجهة مُتطلَّباتها. والأجيال التي نشأت على نـمط من الثقافة والفكر والممارسات، قد لا تكون مُؤهَّلة للتكيُّف مع التطوُّرات والظروف الـمستجدة؛ فيكون بناء الأجيال الجديدة للأُمَّة أمراً لازماً.
ولذلك، فإنَّ قِيَم الإصلاح والتجديد والنهوض لا تأخذ موقعها المناسب في الثقافة الإسلامية والحضور الإسلامي على ساحة العالَم دون أنْ تكون امتدادات مُتفرِّعة من منظومة القِيَم العُليا: التوحيد، والتزكية، والعمران، التي لا بُدَّ من استدعائها في واقع الأُمَّة في كلِّ حين.
وإذا كان المسلمون يعتزّون بقوَّة القِيَم التي يعتمدونـها معايير معنوية لوجودهم وسعيهم، فإنَّ ذلك لا يغني شيئاً إذا لم تستند قوَّة القِيَم إلى قيمة القوَّة التي تُعبِّر عن السند الحقيقي لوجودهم وحضورهم؛ فلا بُدَّ من التوازن بين الأمرين. ولا يُعَدُّ ذلك تقليلاً من شأن الإيمان بالقِيَم، وإنَّـما هو تأكيد لضرورة العمل بمقتضيات الإيمان، وإنَّ قيمة العمل تتمثَّل في نتائجه، وهذه النتائج هي المُعوَّل على حضوره، وتقويـمه، والمسؤولية عنه.
وقد اخترنا في هذا البحث أنْ نتحدَّث عن سُنَّة التغيُّر وامتداداتـها في منظومة القِيَم العُليا، ويُمكِن بالطريقة نفسها الحديث عن سُنَن أُخرى، مثل: سُنَّة التمكين، وسُنَّة التدافع، وغيرهما من السُّنَن، بحيث يتأسَّس عندنا نوع من الفهم والفقه الذي يُمكِن أنْ نُطلِق عليه اسم فقه السُّنَن. فإذا كان فقه الصلاة هو العِلْم بالأحكام الشرعية الخاصة بالصلاة واستنباط هذه الأحكام من أدلَّتها، فإنَّ فقه السُّنَن هو العِلْم بالأحكام والتوجيهات التي تختصُّ بالسُّنَن والقوانين التي جعلها الله ضابطة وحاكمة لسلوك الأشياء الطبيعية والحياة البشرية، ومعرفة هذه الأحكام من النصوص الشرعية التي تتعلَّق بـها. ومن ذلك فقه سُنَن قيام الأُمم؛ أيِ العِلْم بمعرفة القوانين التي تحكم قيام الأُمم وبقاءَها واستقرارها؛ فاكتشاف هذه السُّنَن أو القوانين وفهمها وتوظيفها يعني فهم واقع الأُمَّة وما يَتَّصِف به هذا الواقع من قوَّة وضعف، وصحَّة ومرض، وما يحتاج إليه من تغيير وإصلاح.
ولا شكَّ في أنَّ الأُمَّة الإسلامية تعاني في واقعها المعاصر جُمْلةً من المشكلات، وأصبح من فقه السُّنَن في واقع الأُمَّة أنْ ندرس هذا الواقع، والتحدِّيات والصعوبات التي تُواجِهه، والفرص والإمكانيات المتاحة له. ومن ذلك الأسبابُ إلى أدَّت إلى هذه الصورة من الواقع، وكيفية الخروج منه بما يَلزمه من إجراءات التغيير والإصلاح. ومن فقه السُّنَن كذلك امتلاك الوعي اللازم بتفاصيل الأزمة التي تعانيها الأُمَّة؛ والكيفية التي بدأت بها، وزمن بَدْئها، ومراحل تطوُّرها، والحجم الذي وصلت إليه، وأعراضها التي تُعبِّر عنها، واتِّجاهات التحوُّل التي لا تزال تـمرُّ بـها.
والحمد لله رب العالمين
- د. فتحي حسن ملكاوي يكتب: الجمعُ التكاملي بين عِلْمين - مارس 20, 2023
- د. فتحي حسن ملكاوي يكتب: «إذا زلزلت الأرض زلزالها» - فبراير 25, 2023
- د. فتحي حسن ملكاوي يكتب: سنن قيام الأمم - فبراير 12, 2023