د. ونيس المبروك

سمعت لأخت تخاف من الشريعة الإسلامية وتتحفظ على البسملة في المراسلات الرسمية!!

وقد يكون ذلك بسبب الخَبْط والخَلْط بين شريعة الله تعالى، وبين فهم الغلاة ودَخَن التراث؛ لأنه يستحيل أن يخاف صاحب فِطرة سويّة من رحمة الله وعدله ولطفه وحكمته…

فالشريعة -كما قال ابن القيّم- عدلٌ كلها ورحمةٌ كلها ومصالحٌ كلها وحكمةٌ كلها…

فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل.

هذا جواب على بعض الأسئلة والتَّعليقات حول التَّدوينة السَّابقة لعلَّها تفيد من هو حريص على معرفة الموقف وأدلَّته وخلفيَّته، وفيه شيء من الإطالة لتوضيح الأدلة:

وقد دارت جلُّ الملاحظات حول مسألتين؛

الأولى: وصف المخالفة بأنَّها (أخت)، والثانية: اعتبار كلامي مداهنة في الدّين مع من ينكر الزّكاة والحجاب و…،

أمّا باقي الهمز واللمز الشخصي، والافتراء أحياناً، فهذا أمر تعودت عليه حتّى من بعض المتديّنين – للأسف- ولا يُبنى عليه عمل فلا أشغل القارئ الكريم به.

أمّا الاعتراض على وصف المخالف بأخ أو (أخت) فأقول:

إنّ هذا ما تربيت عليه، وتعلمته من ديني ومن هدي النبيّ ، فقد كان يخاطب المدعو مهما كان مؤذياً بالتي هي أحسن،

ويوصي بالرّفق في كلّ شيء، ويحاور المخالف المشرك بكنيته وبأحبّ الألقاب إليه [أنظر قوله لعتبة بن ربيعة: أفرغت يا أبا الوليد]،

وخطابه للملوك كهرقل والمقوقس وكسرى حيث كان يكتب لهم:

«إلى هرقل (عظيم) الروم، إلى المقوقس (عظيم) القبط، إلى كسرى(عظيم) الفرس»،

فهل هذه مداهنة أم أدب نبوي في الخطاب؟ وهل يجهل المصطفى -حاشاه- حقيقة هؤلاء؟ أم أنه فن الخطاب والدعوة؟!

وقد أدّبنا وعلّمنا القرآن أن نقول الّتي هي أحسن في معرض الحوار والدّعوة وعرض الأفكار حتّى مع اليهود والنّصارى من أهل الكتاب:

{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقوله تعالى {وَلَا تجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}…

أمّا أسلوب التحقق في قولي: (قد تكون)؛

فهو من باب حُسن الحِجاج ومحاولة التماس العذر للمخالف وإن تعذّر، وهو أسلوب قرآني أيضاً؛ فقد أمرَ الله تعالى خير من وطئ الثّرى أن يقول للمشركين وهو يحاورهم:

 {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مبِينٍ}

فهل يعقل أن يكون النبيّ شاكّاً في دينه؟

كلّا! إنّما هي أساليبُ وفنون وأدب الدعوة والحوار بالتي هي أحسن، وكذلك قوله تعالى:

{قل لا تسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}

فقد كان مقتضى ظاهر السّياق أن يقول: {لا تُسألون عمّا أجرمنا ولا نُسأل عمّا تجرمون}،

ولكن من أدب القرآن وفنّ الخطاب السّامي أنّه لم ينسب لهم الإجرام إنّما وصف إجرامهم وباطلهم بالعمل {وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فهل هذا تمييع للدّين ومداهنة بالباطل؟!

دوائر الانتماء والأخوّة درجات وأنواع

من المعلوم أنّ دوائر الانتماء والأخوّة درجات وأنواع، وأنّ أعلاها أخوّة الإيمان دون شكّ، ولكن قد تطلق الأخوّة على أخوّة الرّحم، وأخوّة القبيلة، وأخوّة الوطن، وأخوّة الإنسانيّة،

فهناك أخوّة القبيلة، كما في قوله ائذنوا له بئس (أخو) العشيرة،

وهناك الأخوّة الإنسانيّة التي تؤكد أنّ أصل البشر واحد، وأنّ العباد كلّهم إخوة كما في قوله : «أنا شهيدٌ أنّ العباد كلَّهُمُ إخوةٌ »،

وأمّا الّذين يطالبون بدليل من القرآن أقول لهم اقرأوا إن شئتم قول الله تعالى:

{كَذَّبَتْ قَوْمُ نوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نوحٌ أَلا تَتَّقُونَ}

وقوْله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هودٌ أَلا تَتَّقُونَ}

وقَوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ}

فقد سمّاهم القرآن (إخوة) مع أنّه أثبت تكذيبهم لرسلهم وكفرهم بهم! وهذا دليل على أنّ الأخوّة هنا هي أخوّة القوم والوطن لا أخوّة الإيمان.

وللشيخ العلّامة الإمام الطّاهر بن عاشور كلام نفيس عند تفسير قوله تعالى {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ}

إذ يقول رحمه الله:

«وجعل لوطاً أخاً لقومه ولم يكن من نسبهم، وإنّما كان نزيلاً فيهم إذ كان قوم لوط من الكنعانيين

وكان لوط عبرانياً وهو ابن أخي إبراهيم ولكنّه لما استوطن بلادهم وعاشر فيهم وحالفهم وظاهرهم جُعل أخاً».

أمّا موضوع تهمة المداهنة وعدم التّكفير:

فهناك فرق بين المداهنة على حساب الثّوابت وأحكام الدّين القاطعة وبين لين الكلام والبحث عن المشتركات وتوسيع أرضيّة التّوافق،

والمجادلة بالّتي هي أحسن والحديث بالحجّة والبرهان دون إهانة أو ازدراء،

وبخاصّة مع النساء اللاتي خصّهن الإسلام بمزيد من أدب المعاملة والرّفق، وتعارف الرجال على تجاوز الإساءة الشخصيّة لهنّ.

وأمّا موضوع التّكفير فأنا لم أسمع من هذه الأخت إنكاراً للزّكاة أو الحجاب أو غير ذلك من محكمات الدين كما نقل عنها،

كما أنّي لست قاضياً حتى أحكم على أيّ ليبيّ أو ليبيّة بالرّدّة أو الكفر بعد ثبوت عقد الإسلام له لمجرّد لفظٍ تلَفّظَ به أو كلامٍ نقل عنه،

فذلك (حكم قضائيّ) يفتقر لتوفّر الشّروط وانتفاء الموانع، وهذا ما استقرّ عليه علماء الإسلام من أهل السنّة وغيرهم.

ومع كلّ ذلك فيبقى ما كتبته (رأيا) يحتمل الخطأ وليس شرعاً منزهاً، وجلَّ من لا يخطئ في المعنى أو المبنى،

وقد أطلت في التّعقيب تقديراً وحبّاً لبعض الأصدقاء الّذين طلبوا منّي ذلك، وإثراءً للنّقاش النّافع،

وأمّا موضوع تطبيق الشّريعة وما تعرّض إليه من تشويه وتحريف وانتحال فهو أمر يستحق إفراده بالتأليف.