البكاء غريزة إنسانية لا مهرب منها إذا اضطر إليها الإنسان أو فرضت عليه. غير أن البكاء المستمر على ميت أو ظرف مؤلم أو لأي سبب كان أمر منهي عنه، وهو غير ممكن، ولا يجلب لفاعله إلا الألم وضياع الوقت، ولقد صدق من قال:
كَفْكِفْ دُموعَكَ لَيسَ يَنفَعُكَ البُكاءُ ولا العَويلُ
وَأنهضْ ولا تَشكُ الزَّمانَ فما شكا إلا الكَسولُ
واسلكْ بِهِمَّتِكَ السبيلَ ولا تَقُلْ كَيفَ السبيلُ
ما ضَلَّ ذو أملٍ سعى يوماً وحكمَتُهُ الدليلُ
كَلّا ولا خَابَ امرؤٌ يوماً ومَقصدُهُ نبيلُ
وَأنهضْ ولا تَشكُ الزَّمانَ فما شكا إلا الكَسولُ
واسلكْ بِهِمَّتِكَ السبيلَ ولا تَقُلْ كَيفَ السبيلُ
ما ضَلَّ ذو أملٍ سعى يوماً وحكمَتُهُ الدليلُ
كَلّا ولا خَابَ امرؤٌ يوماً ومَقصدُهُ نبيلُ
إن الملاحظ على معظم الذين يكتبون عن العربية وقضاياها يغلب عليهم البكاء والعويل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يُصلح حالا من أحوال العربية المُتردية، ولا يدفع عن أمة العربية خطرا من الأخطار اللغوية التي تتهددها في هذا الزمان والمستقبل إن استمر الأمر على ما نرى ونشاهد.
يبادر الرجل أو المرأة، والمقصود هنا الرجل العربي والمرأة العربية، إلى إعلان الضعف في العربية بلا وجل أو حياء، وقد يزيد فيقر بضعف أبنائه في هذه اللغة، وقد يكون ساخرا أو قد يكون باكيا، ثم تتوالى الأيام والأسابيع والشهور والسنوات فيعود إلى ترديد العبارة نفسها، ثم نسأله: ماذا فعلت لإصلاح الوضع اللغوي عندك أو عند أسرتك؟ فيكون الجواب: لا شيء.
ثم يستمر هذا الخلل اللغوي في الفرد وفي الأسرة إلى ما شاء الله حتى يستشري ليصبح مرضا عضالا تصعب معالجته أو يصعب الاستشفاء منه.
قد تكون الأسباب الكامنة وراء هذا الإهمال كثيرة ومتنوعة، فقد يكون منها السبب المعرفي أو قلة المعرفة، أي الجهل، وقد يكون السبب اقتصاديا، أي الفقر، وقد يكون السبب اجتماعيا، أي إقرار المجتمع بهذا الخلل والتفاعل معه باستخفاف وقلة دراية، وقد يكون السبب غير هذا وذاك، ولعل أخطر هذه الأسباب جميعا ضعف التربية في المجتمع لضعف سلطان الدولة التي لم تهيئ العوامل التي تصنع الظروف المواتية لصناعة فرد تتكامل في شخصيته مقتضيات الحياة اللغوية الناجحة. إن صناعة الفرد الممتاز في المجتمع على الصعيد اللغوي وغير اللغوي إنما تكون خلاصة لتفاعل مجموعة من العوامل الثقافية والاقتصادية والنفسية ضمن خلايا اجتماعية نشطة ذات مسار منضبط بمنظومة أخلاقية وحياتية صحيحة كالأسرة والمعهد والعشيرة والبلدة والدولة.
والخيط المهم الذي يربط هذه العوامل والخلايا والمنظومات ويبرمجها بصورة واضحة هو اللغة، وإن اختلال الخيط اللغوي يقود إلى اختلال النمو والحركة، وبالتالي يقود إلى اختلال الحياة على مختلف الأصعدة.
إن مثل هذا الوصف يقودك إلى معادلة واضحة جدا بالنسبة للمسألة اللغوية العربية، وهي تتمثل في هذه العبارة : إذا أردت الحصول على حياة لغوية عربية صحيحة لا مناص من تفاعل من يستخدم هذه اللغة في مناخ يحقق له الظروف الحياتية السليمة من صحة وغذاء ودواء ومؤسسات للمساعدة على تحقيق هذا الهدف، ولا يبتعد هذا التصور كثيرا عن زراعة النبات، فإذا أردت لهذا النبات النمو الناجح فلا مناص من تحقيق التربة الجيدة والمناخ النظيف حتى يتحقق لك ما تطمح إليه.
وليس هناك اختلاف في تدرج أهمية هذه المؤسسات الاجتماعية التي تشترك في بناء لغة الفرد، فهي تبدأ من البيت الذي يعد أهم خطوة من درجات سلم البناء اللغوي عند الفرد، ويلي هذا في الأهمية وتثبيت التنمية اللغوية الصحيحة المعهد، ثم يلي هذين بحر الحياة الزاخرة بالتفاعل والحيوية والصراع الذي لا تتوقف أمواجه عند شاطئ معين.
إذا مرض فرد وكنت قريبا منه قرابة ملزمة لك بأدائك واجب إنقاذه من مرضه فلا يمكن أن يكون جلوسك بإزائه باكيا أو لاطما للخددود من غير أن تفعل ما يحقق استشفاءه مقبولا ولا كافيا أبدا. قد يموت المريض وقد يصبح مرضه عضالا وأنت على ما أنت فيه من بكاء ولطم خدود، فماذا ينفع البكاء أو لطم الخدود؟!! إن من يبكي على أحوال العربية يكاد يكون تماما كالباكي أو لاطم الخدود على مريض أمام ناظرتيه فلا يملك إلا البكاء ولطم الخدود اللذين لا يسمنان ولا يغنيان من جوع.
إن من المعيب حقا أن لا يكون لدى الفرد ثقافة أهمية اللغة في الحياة، وإن جهلا كهذا لا يختلف عن جهل من لايدرك أهمية الغذاء للعيش، أو من يجهل أهمية النظافة لدفع المرض، أو أهمية النظام للحياة الراشدة. كما أن من المعيب كذلك أن لا يكون لدى المرء غيرة على لغة أسرته وبخاصة على لغة أولاده، فلغتهم هي آلة عقولهم، فكيف تقبل أيها الأب أو أيتها الأم أن يقود أولادُك حياتهم بآلة لغوية مختلة صدئة آيلة إلى الخراب؟
وبالمنطق نفسه، هل تقبل أن يقود ولدك سيارته وهي مختلة ومحتاجة إلى الإصلاح؟!؟! وإن من المعيب كذلك أن يرسخ مدرسٌ الخلل اللغوي الذي استشرى على ألسنة طلبته بدون أن يكون هو قدوة فاضلة لهم، كما أنه من المعيب حقا أن لا يُعنى أي مسؤول في المستشفى أو الصيدلية أو المحل التجاري أو البلديات أو مهندس تعليمات السلامة على الطرق باللغة واستقامتها وجمالها لأن هذا الإهمال يضعف التنمية اللغوية عند أبنائنا الذين تنمو لغتهم من أي معلم تقع عليه في الحياة أبصارهم.
إن من يبكي على العربية في بيته عليه أن يشعر بثقل المسؤولية فيهب لإصلاح الوضع اللغوي في بيته تماما كما يجتهد في تحصيل رزق عياله، كما أن عليه أن يأرق لأي خلل لغوي تماما كما يأرق لأي خلل جسدي يضر بالصحة العامة لأفراد أسرته. كما أن عليه سلوك السبل المستقيمة في تحقيق ما يرمي إليه من إصلاح، أرأيت إن أصاب المرض أحد أولاده فهل يقعد في زاوية من زوايا بيته باكيا أو لاطما للخد حتى يشفى وليده!؟!؟ بالطبع لا، لأن عليه أن يأخذ بالأسباب المؤدية إلى شفائه، فيأخذه إلى طبيب متخصص ليفحصه، ولينصح له بالدواء النافع الشافي،
ثم أليس من واجبه أن يهيئ لوليده بيئة نظيفة ليعمل الدواء عمله في الجسم مؤديا إلى الشفاء، وهكذا الأمر بالنسبة للمرض اللغوي فلا بد من الحرص على الاستعانة بالمختص اللغوي للحصول على الطريقة الصحيحة للتخلص من الخلل، لأن الغفلة عن الخلل اللغوي تؤدي في النهاية إلى مرض لغوي خطير يعوق الفهم والتربية الصحيحة والتنمية العلمية، ومن المؤكد أن من يرضى شيئا من هذا لأسرته فهو غاش لأهله ووطنه وأمته.
وحتى نطمئن على سير السفينة اللغوية للأسرة لا بد من وجود ربان ماهر يكون قدوة لهذه الأسرة في كل شيء وبالذات في اللغة العربية، ولهذا فإن العمل المرغوب فيه لهذا الربان أن يلزم نفسه بمجالسة أسرته لتدبر آية من القرآن، أو حديث شريف، أو بيت من الشعر الجميل، أومثل فيه حكمة بليغة، أو خطبة مؤثرة، فهذه جميعا هي مشارب العربية التي كان ينهل منها أبناء الأجداد الذين دانت لهم الدنيا، أما الجري وراء سفاسف الأمور التي طغت وعمت في أيامنا هذه فلا تكسب لغة رصينة، ولا تبني عقلا ذكيا، ولا خلقا قويما، ولا سمعة شريفة، ولا حياة نظيفة، ولا عزة قعساء، ولا همة عالية، فتعود بنا الأيام إلى جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، فهذه لعمري طامة كبرى بعد أن هدانا الله وأصلح بالنا بدين قويم، ورسول كريم، وكتاب عظيم، وحضارة ومجد أثيل.
وهكذا كل من يبكي العربية في المعهد التعليمي أو المؤسسة المجتمعية كالمشفى والبلدية وتعليمات السلامة على الطرق أو أي موقع من المواقع التي تقع عليها أعين ناشئتنا الذين يتأثرون بكل عنوان لغوي مكتوب أو مسموع.
إن من غير المقبول بتاتا أن يخاطب مدرسُ العربية، وهو القدوة الأساسية في تدريس اللغة العربية، تلاميذه بالعامية لأنه سيخلق لديهم إرباكا لا يمحوه الدهر، فالتلميذ نشأ على العامية، ونحن نريد تعليمه الفصحى، والكتاب المدرسي مكتوب بالفصحى، والمدرس يفسر ويخاطب تلاميذه بالعامية، وهو يرضى التحاور معهم بالعامية، وعليه فإن سلوك المدرس يرسخ العامية عند التلميذ، ويهمش الفصحى التي هي الهدف من التعليم اللغوي في المعاهد العربية، فيصبح تعليمنا اللغوي مخفقا لوجود هذا التناقض في السلوك اللغوي للمدرس وتلاميذه!!! وواضح من هذا الواقع التعليمي المُعْوَج أنه لا يحقق أهداف التعليم اللغوي للعربية، وهو يمثل نمطا من أنماط العبث والفوضى في تعليم العربية، وهو طريق واضح كذلك لضياع لغة أجيالنا التي لا يمكن بدونها أن نبني فيهم العربية عن طريق الارتباط بالنبع اللغوي الأول للعربية، وهو القرآن الكريم، وتراثنا الفكري الذي يمثل شخصيتنا الحضارية عند الأجيال المتعاقبة.
فإذا كان هذا السلوك اللغوي غير مقبول من مدرس العربية، وهو أمر بدهي، فإنه كذلك غير مقبول من أي مدرس يدرس مواده بالعربية، لأن الفصحى، باختصار شديد ووضوح تام، هي لغة العلم ولغة الحضارة، وليس للعامية أي دور في هذا المجال، وعند استخدامك العامية في غير ما وضعت له فإن هذا خلط للأمور لا يقبله المنهج المستقيم، لأن العامية في العالم العربي عاميّات، فاستخدامها يُبْعد عن الفصحى، ويقود إلى جعل العربية لغات، وهذا يفرق ولا يوحد ما دمنا دعاة وحدة لا دعاة فرقة في هذه الأمة المنكوبة.
أما المؤسسات الصناعية والخدمية فالمصيبة اللغوية فيها أدهى وأمر، لأن العربية فيها تكاد نكون منحسرة انحسارا تاما، فالمخاطبة المنطوقة إما بالعامية أو باللغات الأجنبية، وكذلك العربية المكتوبة، أي التقارير والوصفات الطبية والمحاسبات، فهي جميعا يُعبَّر عنها باللغات الأجنبية، وبالذات باللغة الإنجليزية التي لها قصب السبق في هذا المجال.
هذا تشخيص صحيح وواقعي للحياة اللغوية العربية هذه الأيام وهو تشخيص يعمق مأساتنا اللغوية وما يرتبط بها من مشروعات تتعلق بالاستقلال الوطني والحضاري. إن من أبسط طموحات العالم العربي هذه الأيام أن يكون لنا شخصية حضارية مميزة بدلا من أن نبقى مرتعا للأجنبي الذي لا يريد منا إلا أن نكون ذيلا مستهلكا لمنتجاته، وسوقا تدر عليه الأرباح الكبيرة، ومخططا لنهب خيرات بلادنا. ومن هنا فإن أي إهمال للتنمية اللغوية العربية على مستوى البيت والمعهد والمؤسسات الخدمية والصناعية يرسخ هذه القاعدة الخطيرة ولا يساعد على إيجاد أجيال تعرف اللغة العربية وتتربى عليها وتحرص على تنميتها في الحياة المتجددة.
فإذا تركنا البكاء والعويل المرتبط ببيئات التنمية اللغوية التي تحدثنا عنها سابقا، وهي بيئات البيت والمعهد التعليمي بالعربية والمؤسسة التي تشمل المصنع والمتجر والبلديات وغيرها من المؤسسات، ثم انطلقنا ببصيرة نافذة إلى العمل اللغوي المثمر لضمان صناعة أجيال جديدة تحب اللغة العربية بل تعشقها لأنها الممثلة لشخصيتنا وهويتنا، وابتعدنا عن التناقض الفاضح في حياتنا اللغوية، فنحن من جانب نزعم أننا عرب ونحب العربية، ومن جانب آخر نتكلم العامية ونشجعها ونتهالك على تعلم اللغات الأجنبية، وكثيرون منا لا يتكلمون في بيوتهم إلا اللغة الأجنبية، استطعنا أن نضع أقدامنا على الطريق السوي لإنقاذ لغتنا ومستقبلنا.
وسأضرب الآن أمثلة للعمل اللغوي البنّاء الذي سيقود شيئا فشيئا إلى إعادة صياغة العقلية اللغوية العربية بدلا من النواح والبكاء، ثم أترك للعقول الغيورة التي تكثر في هذه الأمة أن تخطط وتبدع أمثلة نعجز عن حصرها في التعليم والتقنيات اللغوية التي تستفيد من تجارب الأمم الأخرى لصناعة عقول عربية جديدة تجمع بقوة ونجاح بين الأصالة والمعاصرة في حياتنا اللغوية الحديثة.
فإذا تناولنا بيئة البيت، وهي الأساس في أي تنمية لغوية، نجد أن التركيز على التنمية اللغوية فيه يوفر علينا وعلى أجيالنا جهودا كبيرة، ويضمن لنا إنتاج نماذج قوية وعصية على الذوبان والانكسار أمام التحديات الكبيرة التي تواجهها أمتنا والمغريات التي أساءت إلى الأجيال المعاصرة في موضوع اللغة وغيره.
وسأقدم، لتناول هذه البيئة المهمة في التنشئة اللغوية، بحديث لباحثة مصرية متخصصة في اللغويات، وعملت مترجمة في الأمم المتحدة لسنوات، وجاء حديثها في برنامج لإحدى القنوات التلفازية تحت عنوان :” تأثير القرآن الكريم على العقول ” ورد فيه أنها قرأت في كتاب ترجمَتْه من الإنجليزية بعنوان : Militant Islamلكاتب غربي يدعى Jason نشر سنة 1979 أن الدول الغربية عندما قررت التخلص من الدولة العثمانية أجرت دراسة لمعرفة أسباب القوة الموجودة عند الفرد المسلم الذي نجح في السيطرة على العالم في ذلك الوقت ومن قبله، فوُجد أن السبب يعود إلى تحفيظ القرآن في الكتاتيب لأن هذا التحفيظ يصنع رجلا جبارا قويا ملتزما بفكر قوي ولغة قوية هي العربية الفصحى، فتخيل أن الطفل الغربي عندما يذهب إلى المدرسة تكون حصيلته اللغوية 16000كلمة، بينما الطفل العربي المعاصر عندما يذهب إلى المدرسة تكون حصيلته اللغوية من العامية 3000كلمة، غير أن الطفل الذي يحفظ القرآن في الكُتّاب، ويتعلم النحو العربي من السنة الأولى إلى السابعة، وربما إلى الثانية عشرة، تكون حصيلته اللغوية 50000كلمة،
وهذا يكشف سر الجبروت والقوة التي كانت عند أبناء المسلمين في الماضي. بينما نجد الأولاد المعاصرين الذين يفتقرون إلى عمق التفكير، ويتسمون بقلة الإبداع وضعف التصور وضحالة الخيال، ويجهلون العربية الفصحى، وابتعدوا عن حفظ القرآن، لأن مناهج التدريس اتبعت الأسلوب الغربي الذي يبعدهم عن القرآن وتحفيظه.
وتقول دراسة جيسون التي مر ذكرها والتي يمكن ترجمتها ب(الإسلام الثوري) : فلما عرف الغرب هذا السبب أخذ يعمل على تخريب هذا المنهج عند المسلمين فحارب الفرنسيون الكتاب في الجزائر، وكذلك فعل حلفاؤهم في المشرق العربي، ليتسنى له إضعافهم وحسر ارتباطهم بالقرآن الذي يقود حفظه إلى صناعة أفراد جبارين في الحياة وفي القتال.
والمقترح العملي الذي يمكن أخذه من هذه المقدمة أنه لو حرصت كل أسرة عربية على تحفيظ أولادها شيئا من القرآن الكريم ومدارسة ما حفظوه كل ليلة بدلا من التوافه التي يسبح بل يغرق فيها أطفالنا من هنا ومن هناك لنجحنا في بناء أجيال تتمتع بقوة لغوية مذهلة، ولكان عملنا حلا جذريا للمسألة اللغوية العربية التي استعصت على الحل قرنا ونيفا من الزمن وما زالت في أسوأ أحوالها في مجالات متعددة.
إنه من المدهش، وربما من نافلة القول، أن نُذَكر معاهدنا العلمية بالاهتمام باللغة العربية، والعناية بها، فإذا لم تعن المعاهد العلمية من المدارس الأساسية إلى الجامعات بهذه اللغة فمن الذي يُعنى بها؟! وإذا كان المعهد العلمي غير حريص على تحسين آلة العلم في رحابه وحرمه، وهي اللغة، فبأي آلة يُعنى هذا المعهد أو ذاك؟!
إن وضع اللغة العربية في معاهدنا العلمية لا يدعو إلى التفاؤل أبدا، ولقد مللنا من تعداد الأدلة الملموسة على ذلك، وربما كان آخر هذه الأدلة ما نشر في أدوات التواصل الاجتماعي، وهو أن مذيعا جاء إلى مجموعة من التلاميذ في مدرسة عربية من مستوى الصف الثاني والثالث الأساسيين، وكان لدى المذيع مجموعة من المجسمات والأشكال، فيسأل المذيع التلميذ عن اسم الشكل الذي يعرضه عليه، فيجيب التلميذ ذاكراً اسم المجسم بالإنجليزية، ثم يسأله المذيع أو معد البرنامج عن اسم المجسم بالعربية فيكون جواب التلميذ: ما أدري!!؟؟ وأنا لا أزيد في التعليق على هذا الموقف إلا بالقول: عجبٌ عُجابْ !؟!؟ زحسبنا الله ونعم الوكيل !!! إن هناك سعيا حثيثا إلى تجريد أولادنا، فلذات أكبادنا، من اللغة الأم، العربية التي تؤكد هويتهم الحضارية وانتماءهم الثقافي، ونحن غافلون ونحسن الظن بهذه الطرق التعليمية المُريبة !!
وليس هناك شك في أن الخطوة العملية الصحيحة في هذا المجال التشريع الصحيح والمستقيم للعناية بلغة أبنائنا العربية حتى يستقيم لسانهم ويصبحوا أقوياء في لغتهم صوتا وصرفا ونحوا وتعبيرا مكتوبا ومنطوقا لأن لغتهم هي عقولهم ومستقبلهم الذي تنتظره أمتهم لصيانتها من المتربصين بها وبخيراتها وتراثها. وإذا كنا قد أسسنا لغة أبنائنا الصغار على القرآن وحفظه وتدبره لصناعة أجيال قوية في اللغة والفكر فإن هؤلاء الأبناء لا يستغنون عن هذه الوجبة القرآنية عندما تطأ أقدامهم عتبات الجامعات والمعاهد العليا، بل هم عندئذ في أمس الحاجة إلى هذا لتثبيت ما حصلوه في طفولتهم.
أما مسألة المؤسسات فلا مناص من أن تفرض الدولة عليها الاهتمام باللغة العربية، وبخاصة في إعلاناتها وجرد حساباتها ومراسلاتها وتقاريرها، ولا بد من توفير الأسباب المساعدة على تحقيق هذا الأمر كتوفير وظيفة المدقق اللغوي في حين من الدهر إلى أن تستقيم لغة الموظفين بعامة، لأن إطلاق الحبل على الغارب سيفتح الباب على مصراعيه لعبث العابثين. وما الذي يمنع أن توجه هذه المؤسسات لإحياء الندوات والمسابقات الأدبية واللغوية والثقافية لتثبيت روح حب اللغة العربية واحترامها والتفاعل مع جمالها اللغوي والأدبي، ولعل في هذا كله خطوات تقود إلى تجميل النفس وتثقيفها وصقلها ومضاعفة حبها للعمل وللمؤسسة التي ينتمي إليها الموظف.
وإنه لمن المؤسف والمحزن أن تكون الأولوية في التوظيف لدى هذه المؤسسات هو إتقان لغة أجنبية كالإنجليزية أو غيرها، أما من يتقن لغته العربية، ويجاهر بذلك ويباهي به، فلا مجال له في عمل أو وظيفة سواء أكان هذا في المصارف أم كان في الشركات المتنوعة في الاختصاص، لأن مطامح هذه المؤسسات لا تلتفت إلا إلى الربح والمادة فقط، أما مصلحة الأمة ولغتها وتربيتها فلا يلتفت إليها أحد، وإن في هذا لعبرة لأولي الأبصار، واللهم اشهد فقد بلغت.