- د. يحيي جاد يكتب: جريمة حصار «غزة» - نوفمبر 15, 2019
- د. يحيى جاد يكتب: أطوار الأزهر الشريف - يوليو 30, 2019
«غزة» مكانٌ معزولٌ عن العالَم، فالغالبية العظمى من أبنائها، خاصةً أبناء جيلي والأجيال اللاحقة، لم يغادروا غزة مرةً واحدةً خلال حياتهم، هذا يعني أنهم :
– لم يروا نهراً أو جبلاً،
– ولم يركبوا قطاراً أو يستعملوا مصعداً كهربائياً،
– بل إنهم أيضاً لم يروا في حياتهم طائرةً مدنيةً في السماء تُقِل مسافرين؛ لأن الطائرات الوحيدة التي تحلق في سماء غزة هي طائرات الحرب الإسرائيلية، وكانت أول مرة في حياتي أرى فيها طائرةً مدنيةً تحلق في السماء عام 2011م حين سافرت إلى القاهرة، كتبت آنذاك : هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها طائرةً ترمز إلى الحياة والنشاط، وليس إلى الموت والخوف !
من المرعب تخيل أن أكثر أهالي غزة من الأجيال الشابة:
– لم يتحدثوا طوال حياتهم مرةً واحدةً مع شخص خارج أسوار مجتمعهم،
– لم يخالطوا إنساناً من ثقافة أخرى أو لغة أخرى،
هذه هي الآثار غير المرئية لـ “جريمة الحصار”؛ فالحصار :
– لا يقتل المرضى، ويمنع الغذاء والدواء، وينشر البطالة، ويدمر الاقتصاد، وحسب،
– وإنما يَنْزِعُ كذلك مِن المحاصَرين “إنسانيتهم”؛ عبر حرمانهم من الحق الطبيعي في الاتصال مع بقية أبناء الأرض،
محاصِرو غزة يَخْنُقُون “أشواقَ أرواحِنا” في الانطلاق دون قيود، وهذا من أقوى أسباب حبي للسفر [..].
وليس شائعاً أن يحصل سكان غزة على تأشيرة دخول لأمريكا، ما لم يكن لديهم مبرر قوي، وكان مبرر حصولي على تأشيرة هذه الزيارة : دعوة وُجِّهَتْ إليَّ مِن مؤسسة عريقة، هي “لجنة خدمة الأصدقاء الأمريكية” (AFSC)، التابعة لـ “جماعة كويكرز”، ضمن “برنامج إيصال أصوات المجتمعات المضطهَدة إلى المجتمع الأمريكي”؛ فبدأوا بتنسيق رحلة لي منذ صيف العام الماضي، تشمل :
– زيارة أكثر من عشر مدن أمريكية في ثماني ولايات،
– وإلقاء محاضرات تعريفية بحصار غزة وحق العودة وقضية فلسطين ولقاء مئات الشخصيات الناشطة في المجتمع الأمريكي،
– وزيارة معالم تجسد قصص النضال الحقوقي في التاريخ الأمريكي،
– ومد جسور التواصل مع أهل غزة.
وهذه الجماعة الداعية: صاحبةُ تاريخٍ حافلٍ في “نصرة العدالة وحقوق الإنسان”؛ إذ كان لها دورٌ في تحرير المستعبدين من الجنوب الأمريكي وتهريبهم إلى الشمال، وقد حازت جمعية “AFSC” على “جائزة نوبل للسلام” عام 1947م. أما فيما يتعلق بدورها تجاه فلسطين : فقد كانت أول منظمة تقدمُ الغَوْثَ للاجئين الفلسطينيين بعد النكبة، قبل تأسيس “الأُونُرْوَا” [..].
وحين غدا معبر رفح وراء ظهري بعد ست سنوات من المحاولة؛ كنت أشعر بنشوة غامرة في الانطلاق بالسيارة دون توقف؛ لا أريد أن أنزل فندقاً أو بيتاً، وإنما أود لو ظلت السيارة منطلقةً إلى أبعد مدىً لأشعر بأكبر قدر من الحرية؛ الآن يمكن أن أقطع مسافات شاسعةَ دون أن تصادفني بوابة أو لافتة تعلن انتهاء حدود حريتي.
وحين وقفت مع صديقي جهاد في شرفة بيته في الطابق الحادي عشر في مدينة “شيكاغو”، كان يشير إلي معرفاً بأرجاء المدينة، سألته ساخراً : “أين السلك ؟” ؛ فالسلك هو حد الحرية في قطاع غزة، فإذا وقفت في طابق مرتفع وسط غزة فإنك تستطيع من ذات النقطة :
– أن ترى أقصى حد شرقي، وهو السلك المزود بأبراج وتحصينات جنود الاحتلال،
– وأن ترى أقصى حد غربي، وهو شاطئ البحر الذي تحتله زوارق الاحتلال وتمنع أي فرد أو قارب من تجاوزه.
إن طول العهد بالحصار يجعله :
– يتسلل إلى “قدرات المحاصَرين التخيلية”،
– وينال من “قدرتهم على تصور صحيح للعالم”.
هذه هي “جريمة القتل الجماعي” التي ترتكبها دولة الاحتلال ضد شعب كامل.
قالت لي سيدة تمكنت أخيراً من زيارة دولة أوروبية : “لقد تفاجأت أن هناك كثيرٌ من الناس الطيبين” !
إن من الطبيعي أن يكون هناك كثير من الناس الطيبين في كل مكان، ولكن “انقطاع الاتصال” :
– يَحْرِم الناسَ من “معرفة البديهيات البسيطة”،
– ويُضعف قدرتهم على “تحقيق التفاهم والتعاطف المتبادل”.
لذلك حين سألت أصدقائي في أمريكا عن الجدوى التي يتوقعونها من رحلتي، قالوا لي : إن مجرد الحضور سيحقق شيئاً.
إن كثيراً من الناس لم يقابلوا شخصاً من غزة،
ولم يسمعوا منه قصص الحياة تحت الحرب والاحتلال والحصار.
إن ما نراه في غزة عادياً بفعل “طول الإلف”: يحمل كثيراً من الغرابة لمن لم يعش ذات الظروف، والحكم هو فرع عن التصور، وكثير من الانحياز للاحتلال في أمريكا وغيرها مَرَدُّهُ إلى “قوة الضخ الإعلامي” عن “المظلومية اليهودية” و”الإرهاب العربي”،
لذلك، فإن إنشاءَ تصورٍ يُظهر إنسانية الشعب الواقع تحت الاحتلال، وهمجية مشروع التهجير والاحتلال والحصار : سيحقق، مع الزمن وتراكم الجهود، “إزاحةً في المواقف”،
ومن ناحية أخرى، فإن التواصل يبصرنا بـ”امتدادنا الإنساني”، فنحن لسنا استثناءً من البشر، وكم في هذا العالَم مِن قَصَصِ ظلمٍ وتمييزٍ؟ وكم فيه مِن قصصِ نضالٍ وبطولاتٍ؟
إن التواصل:
– يحررنا مِن وهم الاستثنائية،
– ويرينا السياقَ التاريخي لقضيتنا،
– ويُبَصِّرنا بالمساحات المشتركة مع الأمم والشعوب،
– ويدفعنا إلى حب شركائنا في النضال في سبيل العدالة وحقوق الإنسان،
– ويمنحنا الفرصة للتعلم من تجاربهم،
بينما الابتعاد:
– يدفعنا إلى اختزال الناس في أطر ضيقة،
– ويحرمنا من رؤية التعدد والثراء،
فقد يَظُن المُحَاصَر في عزلته أن أمريكا هي ترامب واللوبي الصهيوني،
وفي المقابل قد يظن الأمريكي، تحت ضغط التعبئة الإعلامية الموجهة، أن العربي هو الإرهابي المتوحش،
لكن الاقتراب يزيل الحواجز ويجلي الروابط الإنسانية،
وأنا أقترب من المجتمع الأمريكي: أستطيع أن أبصر إنسانيتنا المشتركة أكثر،
وأنا أحدثه عن غزة وفلسطين : يستطيع هو أن يفهم إنسانيتي أكثر [..].
أسأل كثيراً ممن أقابل من الأمريكان: هل سمعتَ عن غزة من قبل ؟ فيجيبونني : لا.
وهذا جواب لا يدفعنا إلى بُغضهم، وإنما إلى التماس العذر لهم، إذ كيف سيتعاطف الناس مع قضيتنا وهم لا يعرفون عنها شيئاً؟!
وما هو، مثلاً، مقدارُ معرفتنا عن مأساة اللاجئين المكسيكيين في الجنوب؛ كي ننتظرَ من الطالب في جامعته، أو العامل في مصنعه، أو الناشط في حقل نشاطه، أن يعرف عن مأساتنا؟!
الناس متشابهون في كل مكان، والعواطفُ الإنسانية التي نحملها : يَحملها هؤلاء مثلنا، ويُثبت ذلك حسن عشرتهم في المستوى الفردي وتأثرهم حين يعرفون، لكننا ندفع ثمن الابتعاد!
ما أيسر الحل الإنساني!؛ أن يقترب الناسُ من بعضهم أكثر، وأن يسمعوا من بعضهم أكثر.
[صديقنا القدير أ. أحمد ابو ارتيمه]