عبدالله القيسي

قبل سنين وبينما كنت ماراً مع القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني إلى بيته حدثني بعبارة ظلت عالقة بذهني عدة أيام، أحاول أن أبحث عن تفسير لها !.. لقد قال: ” يا ابني أنا لي ستين سنة أفتي لا يكاد يمر يوم دون أن يسألوني عن قضية من قضايا الزواج والطلاق”، ستين عاما !

أعرف أنها أسئلة مكررة، وأعرف أيضا أن أغلبها في الطلاق، وأعرف أيضاً أن تلك الطلقات كانت فلتات لسان في لحظة غضب أو تسرع، ثم جاءوا ليبحثوا عن فتوى لعلها تلغي تلك الطلقة،

فقلت: ألهذه الدرجة لا يعلم الناس تلك القضايا ؟! ألم يفصلها القرآن ويبسطها ؟! وما هي فلسفة القرآن في الطلاق حتى نجمع شوارد مسائله وقضاياه؟ وهل الناس على الطريق المستقيم في هذه القضايا أم هناك غبش أدى لهذا الهوس من الأسئلة في الطلاق؟

عزمت أمري لأبحث أولا في فلسفة الطلاق في القرآن، فكانت النتيجة ما يلي:

الطلاق في نظر الشريعة الإسلامية عملية جراحية مؤلمة، ولا يلجأ إليها إلا لضرورة توجبها، تفاديًا لأذى أشد من أذى العملية نفسها. هذا ما يجده المرء حين يتأمل في أحكام الطلاق في القرآن الكريم، فالإسلام يحرص على أن تبقى العلاقة الزوجية متينة لا يشوبها شائب، ويضع الحلول في حالة أي مشكلة قد تقع، ولا يكون الطلاق إلا في حالة عدم وجود أي توافق بين الطرفين. ولهذا وضعت الشريعة قيودًا عدة على الطلاق، حرصًا على رابطة الزوجية (الميثاق الغليظ) أن تتهدم لأدنى سبب، وبلا مسوغ قوي.

ما أجمل تلك العبارة التي قرأتها للشيخ محمود شلتوت (شيخ الأزهر السابق) حول قضية الطلاق، إنه يصوغ جملة تكفي المسلمين في أي قضية من قضايا الطلاق، وتزيح عنهم كما هائلا من الاختلافات والأقوال، عبارة تعبر عن روح القرآن في قضايا الطلاق، يقول رحمه الله: ” والرأي أنا لا نفتي ولا نحكم بوقوع طلاق إلا إذا كان مجمعا من الأئمة على وقوعه، فإن الحياة الزوجية ثابتة بيقين، وما يثبت بيقين لا يرفع إلا بيقين مثله، ولا يقين في طلاق مختلف فيه” ([1]).

وبناء على هذا التصور للطلاق، فإني سأختار لكم من آراء الفقهاء ما يتناسب مع هذه المبادئ والقواعد التي تجعل الطلاق علاجاً للأسرة لا مشكلة تؤرقها:

فلو أن المسلمين اعتمدوا مثلا عدم وقوع ما سموه (الطلاق البدعي) والذي يخالف القرآن في هيئة الطلاق المطلوبة، فلا يقع طلاق من طلق زوجته وهي في حالة حيض أو في حالة طهر مسها فيه. وهو رأي جماعة من السلف كمحمد الباقر وجعفر الصادق وابن عليّه وهشام بن الحكم وابن حزم وابن تيمية وابن القيم ورجحه الشوكاني، وهو رأي الخوارج والشيعة. (المغني -فتح الباري-نيل الأوطار). ورجحه بعض العلماء المعاصرين كشلتوت والغزالي وغيرهم. فلو طبقنا هذا الرأي لسقط 99. 99% من قضايا الطلاق.

وكذلك اعتماد الرأي الذي يقول إن من طلق ثلاثاً دفعة واحدة فإنه لا يقع إلا واحدة فقط. وهو رأي نقله ابن القيم عن عدد من الصحابة والتابعين: (من الصحابة: ابن عباس والزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف ورواية عن علي وابن مسعود. ومن التابعين: عكرمة وعطاء وطاووس وداوود بن علي الظاهري وأكثر أصحابه وابن حزم وبعض أصحاب مالك وبعض الحنفية وبعض أصحاب أحمد وجماعة من مشائخ قرطبة) ([2]). وأيده ابن تيمية وابن القيم. ونقله الشوكاني عن: (أبي موسى وابن عباس وطاووس وعطاء وجابر بن زيد والهادي والقاسم والباقر والناصر وأحمد بن عيسى وعبدالله بن موسى بن عبدالله ورواية عن علي ورواية عن زيد بن علي، وابن تيمية وابن القيم وجماعة من المحققين) ([3]). ورجحه ابن الأمير والشوكاني. ورجحه بعض المعاصرين كشلتوت والغزالي.

وكذلك لا يقع الحلف بالطلاق، فإنه يمين لغو ولا كفارة عليه، وما أكثره في بلادنا! وقد نقل عن علي وبعض المالكية وطاووس والظاهرية وكثيرين ذكرهم ابن القيم والشيخ شلتوت، وبعضهم قال: يمين منعقدة، عليه كفارة.

وهناك أنواع من الطلاق لم يعتمد وقوعها بعض السابقين كالظاهرية وغيرهم، ووافقهم بعض المعاصرين في عدم وقوعها كالشيخ شلتوت والشيخ الغزالي، لأن تلك الأنواع تخالف مقاصد القرآن في الطلاق فقالوا :

– لا يقع الطلاق المعلق بزمن إذا جاء شهر كذا فأنت طالق.

– ولا يقع الطلاق المعلق بعمل ” إن عملت كذا فأنت طالق”.

– ولا يقع الطلاق بألفاظ الكناية.

– ولا يقع الطلاق بالوكالة.

– ولا يقع طلاق الغائب.

– ولا يقع طلاق وهو غير قاصد له وإنما أخطأ لسانه.

– ولا يقع الطلاق بالصفة.

– ولا يقع طلاق من جعل إلى امرأته أن تطلق نفسها.

– ولا يقع طلاق الغضبان الذي لا يتصور ما يقول ولا يدري ما يصدر منه.

وقد أيد هذا الرأي أيضاً ابن تيمية وابن القيم وسيد سابق.

بل إن هناك من الفقهاء من رأى أن الأمر بشاهدي عدل في الطلاق والرجعة واجب وعدم وجوده ينقض عملية الطلاق، وهذا الرأي منسوب لأهل الظاهر وعطاء وابن جريج وابن سيرين وأيده الشيخ الغزالي، وهو كذلك مذهب الشيعة الإمامية كما ذكر الآلوسي.

إضافة إلى تلك الأحكام المشهورة من عدم وقوع طلاق المكره والسكران والهازل والمخطئ والغافل والساهي والمدهوش والمجنون والمعتوه، وهي أسماء متناثرة في كتب الفقه، وهناك من الفقهاء من يقول بعدم وقوعها ولديه أدلته.

تخيلوا معي لو عرف الناس أن ذلك كله من مسائل الطلاق لا تقع، هل سيحتاجون لأن يسألوا في مسألة أو يستفسروا عنها؟ إني لا أجد إلا عبارة واحدة تلخص ذلك كله: الطلاق عملية جراحية اضطرارية، لا تكون إلا بين زوجين لم ينفع معهما أي حل غير الفراق.

فلو طبقنا الطلاق كما أراده القرآن، في وقت معين وطريقة وأسلوب معينين، فإن الطلاق لن يقع إلا نادرا جدا بين اثنين أثبتت الحياة أنه لا يمكن بقاءهما في بيت واحد، وأن الأنسب هو افتراقهما، وهذا لا يعني أن يستمر الناس باللعب بتلك الألفاظ كركون منهم بأنها لا تقع، إذ عليهم أن يعرفوا أن الزواج ميثاق غليظ كما سماه القرآن، وما هكذا يتم التعامل مع الميثاق الغليظ.

هناك أيضا أوامر ذكرها القرآن ترافق عملية الطلاق وما بعده من حقوق، وقد تجاوزها الناس أو نسوها، ولم يجدوا تذكيرا لها في الخطاب الوعظي للأسف، ومن تلك التوجيهات أن لا تخرج المرأة المطلقة من بيتها حتى تنتهي العدة، لأن ذلك قد يجعل مراجعتها أسهل وعودتها للحياة الزوجية أبسط، قبل أن تزيدها أسرتهما تعقيدا، وقد أمر القرآن بعدم خروجها أو إخراجها إلا إذا أتت بفاحشة مبينة، فإن له أن يخرجها إلى بيت أهلها.

حقوق منسية:

من الحقوق التي لا تتنبه لها كثير من النساء اللاتي يشعرن بالظلم من أزواجهن أو لا يشعرن بالسعادة معهم، أن لها حقان: حق الخلع وحق الفسخ.

فإن كان الزوج مقصرا في الحقوق وأثبتت الزوجة ذلك أمام القضاء فإن لها الحق أن تفسخ عقد الزواج دون دفع أي فدية، لأن الزوج أخل بالعقد،

أما إذا كان الزوج غير مقصر في الحقوق ولكن الزوجة لم تطق العيش معه ولم تحبه، فيحق لها أن تخلع نفسها منه على أن تدفع فدية من المال الذي دفعه لها مهراً.

للمطلقة حق النفقة والسكنى في وقت العدة حتى لو كانت الطلقة الثالثة وهو رأي الأحناف. يقول تعالى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} الطلاق: 6. أما المالكية والشافعية لها السكنى دون النفقة، والحنابلة في الطلاق الرجعي.

ومما ضاع من حقوق المطلقات ولم يعد يتكلم عنه الناس أو يطبقونه هو حقهن بعد طلاقهن من المتاع بالمعروف سواء كان مدخولا بها أم غير. يقول تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} البقرة: 241، فللمطلقات متاع ينتفعن به جبرًا لهن، ودفعًا لوحشة الطلاق، وإزالة للأحقاد، لأنهن شاركن الرجل في بناء حياته وثروته، فلا يصح أن يتركن ويهملن كما يعمل الكثيرون، حيث تبدأ حياتهم بالفقر فتشاركه زوجته كل عناء الفقر وتقف معه حتى يشتد عوده ويكثر ماله ثم يطلقها ولا يعطيها شيئا، ولذا أوجب الإسلام عليه هذه المتعة بالمعروف، أي بحسب حال الرجل المطلِّق فإن معروف الغني يختلف عن معروف الفقير فقد يكون متاع الغني بيتا وسيارة ومبلغا من المال، بينما الفقير قد يكون مبلغا من المال تستطيع المطلقة أن ترتب نفسها به حتى تتزوج أو يجعل الله لها فرجا، وهذا المتاع نجد فيه تساهلا كبيرا حتى من الدعاة والعلماء فلا يذكرونه رغم أن الله تعالى أكده بقوله: {حقا على المتقين} أي حقا ثابتا على الذين يتقون الله.

ولا أنسى أن أذكر هنا أن حق المرأة في أن تعقد زواجها بنفسها لأنها بالغة عاقلة سيخفف الكثير من مشاكل الحياة الأسرية، إذا سيجعلها تقف أمام مسئولية اختيارها وقرارها، فالحياة حياتها لا حياة وليها، وهذا ما فقهه أبو حنيفة من قوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} البقرة: 230. فكلمة (تنكح) تجعل عقد النكاح عائدا عليها، ولم يقل ينكح وليها.

الهوامش :

[1] – الفتاوى ص 310.

[2] – أعلام الموقعين 3/30.

[3] – نيل الأوطار 6/260.

للتوسع انظر :

1- “الإسلام والمرأة عند الإمام محمد عبده”، د. محمد عمارة، ضمن سلسلة “التنوير الإسلامي”، طبعة دار نهضة مصر (Nahdet Misr Publishing House)، القاهرة …

2- “حقائق وشبهات حول مكانة المرأة في الإسلام”، د. محمد عمارة، طبعة مكتبة دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة (dar-alsalam)، القاهرة …

من عبدالله القيسي

كاتب وباحث في الفكر الإسلامي