فاتن فاروق عبد المنعم

هشام المؤيد بالله بن الحكم:

لما توفى الحكم المستنصر بالله كان بالقصر زهاء الألف من الصقالبة الخصيان، لهم نفوذ عظيم وفي يدهم الحرس الخلفي لذا فهم قوة لا يستهان بها.

 

كتموا خبر وفاة الحكم حتى يتدبروا الأمر ليتولى الحكم أخو الحكم المغيرة بن عبد الرحمن الناصر بدلا من ابنه هشام المؤيد، فقام زعماء الصقالبة باستدعاء الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي وأخبروه بوفاة الحكم وأنهم يرغبون في تولية المغيرة أخو الحكم بدلا من ابنه هشام فتظاهر بموافقته على المغيرة ووعدهم بالعمل وفق خطتهم ثم انقلب إلى أصحابه من خاصة الحكم بعد ضبط أبواب القصر واستدعى أيضا عصبته وأشياعه من زعماء البربر واستدعى سائر القادة الأحرار ونعى لهم الخليفة الحكم وأذاع عليهم خطة الصقالبة وما فيها من خطورة عليهم لأن تنفيذ مخطط الصقالبة سيقضي عليهم وعلى دولتهم ونفوذهم وسينكل بهم المغيرة والصقالبة، على العكس إذا تولى هشام المؤيد بن الحكم فإنهم سيستبقون سلطانهم ونفوذهم وتغدو الدولة دولتهم ويأمنون على أموالهم وأولادهم فاقترح أحدهم قتل المغيرة كي يأمنوا شره وبالفعل ذهبت إليه عصبة منهم ونقلوا إليهم خبر موت الحكم واستشعر هو نية الغدر به فأذعن في الحال وقال لهم إنه مبايع لهشام المؤيد حقنا للدماء ولكن واحدا منهم قتله خنقا أمام زوجته وكان في السابعة والعشرين من عمره.

 

تمت البيعة لهشام وهو لم يجاوز الثانية عشر من العمر، محاطا ببلاط القصر، استمر بلاط القصر في تلقي البيعة لهشام لمدة أياما لم يعترض عليه أحدا.

 

وأصبحت مقاليد الحكم في أيدي ثلاثة هم الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي ومدير الشرطة محمد بن أبي عامر وأم هشام المؤيد صبح البشكنسية وقد منحت الوصاية على ابنها ومن هنا يحق لها الاشتراك في الحكم.

 

أم هشام المؤيد جارية أبوه الحكم، النصرانية من نافاريا كان لها من النفوذ في حياة والده أنها كانت تعين بعض الوزراء وكان الحكم يثق في رأيها فحظيت بمكانة أرفع في حياة ابنها ما جعلها تتحكم في مصير الأندلس فيما بعد.

 

هكذا آل مصير الخلافة الأموية إلى ثلاثة تجمعهم مصلحة من نوع ما، فالحاجب جعفر كان يخشى على سلطانه ونفوذه لو تولى المغيرة فإنه سينحى جانبا، أما الأم الحسناء فكانت تتوارى خلف وصايتها لابنها الحدث لتتحكم في مصير الأندلس فضلا عن العلاقة الغرامية التي ربطتها بمدير الشرطة محمد بن أبي عامر والذي كان يجزل لها في الهبات والهدايا عشقا وطمعا في الحكم من خلف ستار.

 

وعلى غير الأمويين بعامة من أسلوبهم في تربية أبنائهم ليكونوا فرسانا مضطلعين بالأمر، فمنذ نعومة أظفارهم يعهدون بهم لمن يعلمهم اللغة وآدابها ثم إلى فقيه يدرسون على أيديهم القرآن والفقه والشريعة فإن هشام بن صبح البشكنسية كان يلهو في حدائق القصر مع الخصيان وآلات الطرب ثم بالنساء والندمان في شبابه حيث استغرق في اللهو والشراب وحجب عن العامة وعن شئون الحكم عن قصد من ابن أبي عامر الذي ازداد نفوذه بشكل موسع مستغلا علاقته بالأم الحسناء وحالة الإلهاء الذي غرق فيها ابنها، فضلا عن الصراع الصامت بينه وبين الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي الذي مازال قابضا على الكثير من روافد السلطة العليا بالأندلس.

 

في تلك الأجواء كانت المؤامرات والدسائس تتم في الخفاء من الألف الصقالبة الخصيان داخل القصر والذين كانوا يستعدون للانقضاض على حكم الأندلس وبذلك فهم مناوئين لجعفر وعامر فاتحدا معا لأول مرة للقضاء على الصقالبة وبالفعل تم لهما ما أرادا وأنهيا وجودهما بالقصر مابين النفي والقتل والتجريد من كل شيء ليبقى الصراع المكظوم بينهما قائما، ولكن الفرصة جاءت لأبي عامر على طبق من فضة ليضع يده على مقاليد الجيش، عصب كل سلطان حقيقي، فاستغل القشتالييون النصارى الصراعات داخل القصر وأغاروا على الإمارات الإسلامية فدعا الحاجب جعفر إلى الجهاد في سبيل الله وعهد إلى ابن أبي عامر باختيار الجند وقاد الجيش ليخرج في غزوة لمدة ثلاثة وخمسين يوما يعود بعد حاملا رايات النصر مع الأسرى والغنائم مما كان له أثرا إيجابيا على نفسية الجند والشعب بالأندلس من كونه قائدهم المظفر، لم يلبث سوى أسابيع حتى عاد للغزو مرة أخرى ليعود بعدها ظافرا ويتوطد قدمه لدى الأندلس والخليفة “المشغول”

 

بدأت المواجهة بين الحاجب جعفر وابن أبي عامر علانية، فقد صدر مرسوم من الخليفة بتنحية الحاجب جعفر وتولية ابن أبي عامر مكانه وبذلك يكون قد وضع يده على القصر والجيش في آن وكانت قرطبة في هذه الأثناء تعاني اضطراب أمورها وكثرة الفسق والفساق فضبط أمرها ودحر أهل الشر والدعارة وساد الأمن والاستقرار واستخلف ابن عمه عمرو بن عبد الله حاكما على قرطبة.

 

يذكر أن غالب قائد أحد الجيوش الشمالية التي يشترك مع أبي عامر في دحر النصارى المغيرين، كانا مختلفين فأراد الحاجب جعفر في محاولة أخيرة لاستعادة سلطته التي تغيض فبادر بصلح غالب وطلب مصاهرته بالزواج من ابنته أسماء فوافق فلما علم ابن أبي عامر أدرك ما يعتمل في نفس الحاجب جعفر الذي يحاول التمسك بسلطته فأرسل إلى غالب الذي رافقه في دحر جيوش النصارى يخطب ابنته فوافق وكان زواجا أسطوريا فخيما تم في قصر قرطبة  بإشراف صبح ذات النفوذ واستمر هذا الزواج مدى الحياة.

 

صدر أمر من الخليفة بعد ذلك بالقبض على الحاجب جعفر وآله ومصادرة أموالهم ووضع جعفر بالسجن وحاول مرارا وتكرارا أن يستعطف ابن أبي عامر ولكنه أبى حتى مات بالسجن ويقال أنه مات مسموما، إنه العدل الإلهي فيوما ما تآمر الحاجب جعفر على المغيرة الذي قتل ظلما من أجل الخليفة هشام الذي أصدر مرسوما باعتقاله ومصادرة أمواله.

 

وهكذا اتضحت خيوط المؤامرة وأحبك صنعها وصياغتها ابن أبي عامر تحت زعم حماية الخلافة لهشام المؤيد، فقط كان يوقع الخليفة المحجوب عن العامة باسمه على قرارات ابن أبي عامر الذي يفسح الطريق لمجده الوليد ليرث دولة الأمويين فأنشأ يطيح بكل من كان يرى فيه صلاحيته للولاية حتى استأصل شأفة كل خصومه ومنافسيه ومزقهم كل ممزق بدءا بالصقالبة واحتواء غالب بجيشه وتجريد وقتل المصحفي، ولم تغب الأم الحسناء عن هذه التفاصيل بل كانت في القلب منها فهل حقا كانت تحافظ على الكرسي لابنها أم أسكرتها كؤوس العشق فلم تعد ترى غير إرضاء عشيقها ونزولها على رغباته لتلقي تحت أقدامه بملك عتيق بناه الأمويون بازلين النفس والوقت والمال، فرسانا جيلا بعد جيل يسطرون مجدهم وملكهم ليكون شاهدا على سيرة رجال نتوق لمثلهم في زمان عز فيه النصر.

 

الجارية الحسناء صبح البشكنسية أم الخليفة هشام المؤيد أجادت نسج خيوطها على قلب الحكم الأب لتصبح الأثيرة لديه فيطلق يدها في القصر لتشير عليه بالقرارات الهامة في شئون الحكم، ثم تغرق مع ابن أبي عامر في ارتشاف كؤوس الطلا حتى أسكرتها فلم تعي بما فعلت بملك ابنها الحدث، وهنا يبرق لي سؤال ربما يظنه البعض ساذج، لماذا لم تتزوج صبح من ابن أبي عامر بعد وفاة الحكم بأربعة شهور وعشرة أيام؟ ليقال عنها أم الخليفة هشام المؤيد وزوجة ابن أبي عامر، فإن هيأت الأجواء ليتقدم إلى كرسي العرش عامر قيل عنها أنها تساند زوجها وليس عشيقها أم أن القانون القاضي بعدم صلاحية العشيقة أن تكون زوجة قديم قدم الأزل ولكن يبدو أنها أيضا لا تصلح أن تكون أما.

 

الدولة الأموية الآن بين يدي ابن أبي عامر قدمت له على طبق من ذهب، فشرع في تأمين ظهره من خلال إعادة تنظيم صفوف الجيش فعمل على تقديم البربر للقيادة وتأخير العرب على نهج الناصر الذي أقصاهم عن عمد، وقام عامر بتجنيد الكثير من جنود النصارى من ليون وقشتالة ونافارا في صفوف جيشه وهذا ملمح خطير وربما سقطة أدت لما بعدها وهو العليم برغبتهم في الاستحواذ على الأندلس ولم أجد تفسيرا لفعله؟

 

أسدل الستار على بني أمية ولكن آثارهم كالحفريات في النفوس وعلى الأرض، أولئك الذين شقوا الأرض بأقدامهم لتكون الخطوة الواحدة من أحدهم بألف خطوة ممن يقاربون على المليارين من البشر ولا داعي لأن استرسل في المقارنة بينهم وبيننا فنحن على رؤوسنا آلاف البطحات.

 

الأمويون كانوا فرسانا مضطلعين بما بين أيديهم، إنها دولة الفتوحات الكبرى وإن كانت ملكا عضوضا، نعم منهم من قتل أخيه ومنهم من قتل ابنه من أجل الكرسي ولكنهم كانوا أسودا يهابهم البر والفاجر، فرضوا وجودهم بالقوة التي تجبر الآخر، أي آخر على احترامهم، نعم لهم من السوءات كما لهم من الحسنات ولكن الأخيرة أكثر، أعلاها أن الله جعلهم سببا في إنقاذنا من عبادة الحجر والبشر.

 

الدولة الأموية كانت تحتوي على كل الأديان الموجودة حتى يومنا هذا وأكثر من هذا كان في فسطاطها الملحدين ولم يقيموا محاكم تفتيش ولم يفرضوا دينهم على أحد ولم يزدروا أحدا بل رفعوا كل صاحب موهبة أو جدة بأمر ما، إنها الثقة في أنفسهم أولا والثقة فيما بين أيديهم وهو الدين والأخذ بالأسباب والمقومات التي تعلي من شأن الدولة ومعها كل من ينتسب إليها، إنه الرقي الذي استقوه من القرآن، فالتعددية وقبول الآخر وحقوق الإنسان أيا كان كلها أصول وثوابت إسلامية انتزعها الآخر الذي يشيد بها الآن وينسبها لنفسه بينما لو واجهتهم بما يقوله المنصفين “فرادى منهم بالطبع” فإنهم يقللون منها ويطمسون عليها لا لشيء إلا لأننا لا يوجد لدينا إعلام يعبر عنا ويجلي الحقيقة التي يطمسونها.

 

وللحديث بقية إن شاء الله

فاتن فاروق عبد المنعم

من فاتن فاروق عبد المنعم

كاتبة روائية وعضو اتحاد كتاب مصر