استحوذ أحفاد الفينيقيين في لبنان وتونس على كاميرات الأعلام – بخاصة العربي- نظرا للحراك ” الديمقراطي” في تونس(وقد عالجنا جوانبه في مقال سابق) والحراك ” الاقتصادي ” في لبنان والذي يتمحور حول ” الفساد الاقتصادي وتداعياته ممثلة في سوء توزيع الدخل”.

 

وعند التدقيق في مؤشرات الوضع الاقتصادي اللبناني وربطها بالمؤشرات السياسية نجد ما يلي:

 

1️⃣ الفوارق الطبقية: عند مراجعة عدد كاف من المؤسسات الدولية يتبين ان الدخل في لبنان موزع على النحو التالي:

 

➊ هناك 20% من السكان يستحوذون على 40% من إجمالي الناتج المحلي.

 

➋ نصيب 20% الأفقر من الشعب اللبناني هو فقط 7.9% من إجمالي الناتج المحلي.

 

➌ الطبقة الوسطى (60% من السكان) يأخذون 52.10% من الناتج المحلي.

 

2️⃣ تبلغ قيمة الدين اللبناني 85.3 مليار دولار مع بداية عام 2019، وهو ما يعني أن الدين العام بلغ 151% من إجمالي الناتج المحلي، فإذا علمنا أن هذا الدين ارتفع 5 مليار خلال العام الأخير، ندرك لماذا احتلت لبنان المرتبة الثالثة عالميا في حجم الدين إلى إجمالي الناتج المحلي.

 

3️⃣ الفساد: تقع لبنان ضمن مجموعة الدول الأعلى فسادا، بل حتى عند المقارنة مع الدول العربية فإنها تقع في المرتبة السادسة بين 22 دولة عربيا في ارتفاع نسبة الفساد، فلم تحصل لبنان إلا على 28 من 100 في نقاط الشفافية، وتتشكل روافع الفساد من القوى الطائفية والجهوية والحزبية. وتشير المؤشرات أن البعد الأكثر سلبية في مؤشرات الفساد هو سوء تطبيق القوانين من ناحية وتزايد حدة هذه الظاهرة منذ 2005 بشكل ملفت من ناحية ثانية.

 

4️⃣ هروب نسبة من رؤوس المال اللبنانية إلى الخارج، فالاستثمار اللبناني في خارج لبنان يعادل في العام الماضي حوالي 24.23% من إجمالي الناتج المحلي، أي ما يعادل حوالي 13- 14 مليار دولار.

 

5️⃣ انعكاس الأوضاع الاقتصادية الداخلية والإقليمية السياسية والعسكرية والاقتصادية على مستوى الاستقرار، فمستوى الهشاشة للدولة اللبنانية وصل إلى 70.8% خلال هذا العام، كما أن فعالية الأداء الحكومي تراجع إلى مستوى خطير بلغ 2.21 من 10، ولعل هذا يفسر لماذا كانت نسبة الزيادة في الدخل السياحي عام 2018 أقل من نصف نسبة الزيادة في العام 2017.

 

ويبدو ان المؤشرات السابقة تدل على ان الديمقراطية السياسية للبنان (قياسا لبقية الدول العربية وقياسا لضعف مؤسستها العسكرية مقارنة بالمؤسسات العربية الأكثر استبدادا) لا تتوازى مع الديمقراطية الاقتصادية، ولكن تم توظيف الديمقراطية السياسية ولفترة كافية كميكانيزم امتصاص للاحتقانات الاجتماعية ولستر عورات الاستبداد الاقتصادي، فقد بلغ مؤشر الديمقراطية في لبنان العام الماضي حوالي 4.7 (وهي في المرتبة التالية بعد تونس التي حققت 6.41 لعام 2018)، وتتغذى هذه الآلية على وجود 18 مجموعة دينية معترف بها قانونيا في لبنان، لكن الحراك الأخير يشير إلى أن هذه الآلية قد تعرت أمام عمق الاحتقان الاقتصادي، لا سيما أن الزيادة السكانية الطارئة رفعت العدد إلى قرابة 7 ملايين نسمة في نفس الوقت الذي وصل فيه معدل النمو إلى -0.2% (أي بالسالب) مما جعل البطالة تصل إلى 10% تقريبا بمجموع قرابة 250-300 ألف عاطل عن العمل.

 

فإذا أضفنا لكل ما سبق أن القدرة الإقليمية (الخليج وإيران) على تقديم المساندة لوكلائهما في لبنان لم تعد بزخمها السابق، كما أن منهجية ترامب في جانب المساعدة أصبحت مبنية على مقولة الفيلسوف اليوناني أرسطو “أنا لست معنيا بالظلم الذي يقع على الآخرين” فان مغذيات الأزمة اللبنانية تتعزز..

 

ذلك يعني أن الوضع الاقتصادي يبرر حالة التمرد الشعبي على الحكومة وسياساتها، لكن المخاطر القادمة في هذه الأزمة هي:

 

أولا: أن تبدع الحكومة خطة إصلاحية براقة (وهو ما تم إعلانه) لتمتص الحالة الراهنة لفترة محسوبة ثم تبدأ مرحلة التثاؤب في تطبيق الاتفاق، بخاصة أن في لبنان نخبة سياسية لديها خبرة ميكيافيلية قل نظيرها في العالم العربي.

 

ثانيا: أن يتم انقسام القوى السياسية حول بعض تفاصيل الخطة الحكومية أو حول طرق التطبيق أو حول بعض ما تقترحه بعض هذه القوى، ويتم التحول من المطالب الشعبية إلى مطالب فئوية أو طائفية أو جهوية.

 

ثالثا: المماحكات الحزبية أو بين “ملوك الطوائف” اللبنانيين، ولعل ردة الفعل الحادة من قبل وليد جنبلاط على إعلان وزير الخارجية باسيل اعتزامه زيارة سورية مؤشر على طبيعة هذه المماحكات لتوظيف الأزمة لتصفية القوى لخصومها أو لإضعافها على الأقل.

 

لن تخرج لبنان من أزمتها الراهنة بالسرعة المطلوبة للأسباب التالية:

 

1️⃣ لأن إيقاع التحول الاقتصادي المأمول لا يواكب في وتيرته إيقاع التوقع الشعبي المتسرع حتى لو خلصت النوايا.

 

2️⃣ مصادرة الأموال “لملوك الطوائف” لن تمر بسهولة نظرا لتحكمهم عبر الشبكة الطائفية في دواليب القرار القضائي( فجعجع قتل رئيس وزراء وخرج من السجن) وقيادة الأحزاب المتحكمة في القرار يتم توريثها كما لو أنها عقار (زعماء الأحزاب هم أبناء نفس النخبة منذ الاستقلال.. جنبلاط وفرنجية وشمعون وارسلان والجميل…الخ).

 

إن الخروج من الأزمة بحاجة إلى ثورة سياسية موازية، فالنظام السياسي الحالي هو الحامي للهشاشة الاقتصادية لأنه هو الضامن لمصالح هذه النخبة الوراثية، وعليه لا بد من التحول إلى دولة مدنية تكون فيها لبنان دائرة انتخابية واحدة لاختيار رئيس وسلطة تشريعية من خلال التنافس الفردي والحزبي العابر للطوائف، وهكذا يتم توظيف التراث الديمقراطي “المتاح” على علاته حاليا لتفكيك البنية الاقتصادية الفاسدة…

 

ربما.

من د. وليد عبد الحي

أستاذ علوم سياسية، الأردن