ثمة أمرٌ لم أر من تطرَّق له بخصوص عدم إشعال حربٍ يوم مسيرة الأعلام، وله دورٌ مهمٌّ في تصور المشهد على حقيقته، وله دورٌ كذلك في فهم طبيعة الحروب العسكرية بيننا وبين العدو.

 وقبل بيانه استحضر معي هذين الأمرين لأننا سنحتاج إليهما بعد قليل:

 الأول:

أنَّ العدو أعلن هذا اليوم عن انتهاء مناورته التي سمَّاها «عربات النار»،

والتي بدأت قبل شهرٍ من الآن، والتي حاكت اندلاع مواجهةٍ عسكريةٍ في جبهاتٍ عدةٍ بمشاركةٍ من كافة الفرق والتشكيلات العسكرية برًّا وبحرًا وجوًّا.

 والآخر:

أني ذكرتُ في مقالٍ سابقٍ أنَّ الثقة بقادة المقاومة عالية، إلا أنَّ تمرير المسيرة بما تُمَثِّلُهُ من خطوةٍ إضافية على طريق تهويد الأقصى لم يكن صوابًا فيما يظهر،

ولو ببضع عمليات تقع بالتزامن داخل الكيان الصهيوني.

 إذا تقرر ذلك؛ فإنَّ العدوَّ يتعامل في حروبه بعقيدةٍ قتاليةٍ ذات معالم واضحة،

والعقيدة القتالية هي السياسة المُتَّبعة التي تَنْظِمُ سلوكَ كلِّ قومٍ في الميدان العسكري.

 وإذا تأملنا العقيدة القتالية الصهيونية وجدنا لها أكثر من عشرين معلمًا،

إلا أنَّ ثلاثة معالم منها تمثل الأركان المركزية، أذكرها ثم أجعلها مدخلًا للمقصود من الكلام:

 أولًا:

أن تكون الحرب سريعةً خاطفة.

 ثانيًا:

جعل المعركة في أرض العدو بعيدًا عن أرضه، وهذا يُعطيه استقرارًا في جبهته الداخلية، وغليانًا في جبهة عدوِّه الداخلية.

 ثالثًا:

ركن المباغتة: وذلك بهدف إنزال صدمة بالعدو تكسر نفسيته وتُقعدُه عن حيويته القتالية.

 ومن خبرة بلدنا بالعدو الصهيوني فهو إما أن يبتدئ المعركة باغتيال بعض القيادات؛ كما فعل في حرب 2012 حرب السِّجِّيل،

وإما أن يبغت البلد باغتيال قدرٍ هائلٍ من الجنود؛ كما حصل في حرب 2008 من استشهاد 250 شهيدًا تقريبًا في الدقيقة الأولى.

 وقد تولى ذلك 63 طائرة حربية قصفت جميع مناطق القطاع في نفس الدقيقة، حتى إنَّ بعض الناس قال حينها: «لقد انتهى كلُّ شيء»!؛ لأنَّ الصدمة كانت شديدة جدًّا.

 ومن وجوه تطور العمل العسكري في البلد أنَّ المقاومة أخذت تُفسد على العدو هذه الأركان مرة بعد مرة:

 ففي حرب 2008 حربِ الفرقان نجح العدو فعلًا في المباغتة إلا أنه لم يستطع أن يجعل الحرب خاطفة؛ فقد مكثت 22 يومًا،

ولم يكن مستعدًّا لهذه المدة، حتى اضطر في النهاية إلى إعلان إنهاء الحرب من طرفٍ واحد، وبهذا تقهقر الركن الأول.

 وفي حرب 2012 باغتته المقاومة بقصف تل أبيب، وصار هذا خبرًا معتادًا، وبهذا انتقلت المعركة إلى أرضه،

وتحول قرابة 5 مليون في الملاجئ بعد تمدد رقعة المعركة، وهذا يؤذن بتقهقر الركن الثاني.

 وفي حرب 2014 استطاعت المقاومة أن تُفوِّت عليه ركن المباغتة إذ علمت أنَّه سيشعل حربًا،

فبدأت في قصف صاروخي استمر على مدار يومين من غير إعلانٍ رسمي عن الجهة التي تقف خلف القصف،

حتى اضطر العدو أن يدخل المعركة من غير أن يتمكن أن يفاجئ البلد بأي شيء، وبهذا اختل الركن الثالث.

 إذن: العدو بكامل عُدَّته العسكرية واستعداده وترسانته الضخمة وكونه مؤيدًا من قوى الشر في العالم وعلى رأسها:

الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي..

إلا أنه لا يدخل المعركة إلا بتدبيرٍ وتخطيطٍ وسياسةٍ وخداع.

 والمقاومة كذلك على نفس الخط وذات النهج:

ففي حرب 2012 باغتت المقاومة العدوَّ الصهيوني بقصف تل أبيب، ولم يكن مستعدَّا لذلك،

وكانت كلمة صنَّاع القرار على أنَّ الجولة ستكون تصعيدًا عاديًّا يمكث يومين أو ثلاثة،

ويتدخل الوسطاء وتنتهي الجولة سريعًا،

فلما قصِفت تل أبيب من اليوم الأول صار يركض شرقًا وغربًا لإيقاف الحرب،

ووافق على شروط مذِلَّة فرضتها عليه المقاومة يومئذٍ.

 وفي العام الماضي اندلعت معركة سيف القدس في ختام يوم 28 رمضان،

ولم تكن حسابات العدو مستوعبةً لأن تدخل غزة بمواجهةٍ عسكريةٍ واسعة من أجل ما يجري بالمسجد الأقصى وحيِّ الشيخ جراح، مما أنزل بهم الارتباك والفزع،

وبدأت دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة تتواصل مع عديدٍ من الأطراف لإيقاف الحرب، والنزول عند طلبات المقاومة.

 ولا أنسى أننا كنا في الاعتكاف، وقبيل الساعة السادسة كانت غزة هادئةً تمامًا،

والقيادات العسكرية تتحرك بسهولة، ولا يوجد إخلاءُ مواقع أو أي سلوك يوحي بأنَّ البلد ستشهد حربًا شرسة بعد دقائق.

 حتى إني أذكر أنَّ أحد الإخوة المعتكفين وقبيل الساعة السادسة بثلث ساعةٍ تقريبًا قال لي أثناء محاضرة للمعتكفين:

هناك تصريح يرد الآن بأنَّ المقاومة تمهِلُ العدوَّ أن يتوقف عن رعوناته إلى الساعة السادسة،

فقلت للمعتكفين: ما دامت المقاومة حدَّدت ساعةً بعينها فلن تتراجع، والأمور ستتدهور، وسبحان الله؛

ما أذن المغرب حتى كان جمهرة المعتكفين قد غادروا الاعتكاف، وتحول شكل البلد تمامًا.

 فالمقاومة حصرت خبر الحرب ووجهة الأحداث حتى عن الصفوف العسكرية نفسها؛ ليبقى العدو مطمئنًّا أنَّ الحرب مستبعدةٌ تمامًا.

 وهذه المعطيات مهمةٌ في قراءة المشهد،

لكن كثيرًا من الناس لمحوا نتيجة المعارك التي انتصرت فيها المقاومة دون أن يلحظوا المعطيات التي أفضت إليها.

 وعقب هذا كله؛ فالذي أريد تقريره -بحسب الذي يظهر لي،

والرجوع لأهل الشأن يزيد الرؤية بيانًا- أنَّ العدو كان مستعدًّا تمام الاستعداد للمعركة يوم مسيرة الأعلام قبل بضعة أيام.

صحيحٌ أنه لم يكن مريدًا لها، إلا أنه مستعدٌّ لها تمامًا؛

فهو قد بدأ مناورة عربات النار من شهر،

والذي يروِّجه في الإعلام أنها ليست إلا مناورة تدريبية،

إلا أنها -بحسب ما أرى- تهيئةٌ تكتيكية استطاع أن يفعل من خلالها كلَّ شيءٍ يلزمه في المعركة،

بحيث تكون أكبر خدعة تتعرض لها المقاومة.

 وأذكر في حرب 2014 أن المقاومـة كانت قد استعدت جيدًا في منطقة القرارة من خلال حفر عددٍ جيدٍ من الأنفاق، إلا أنَّ العدو تظاهر بمناورة،

ومن خلالها أتى بعشرات الدبابات التي يحتاجها، وأدخل كميات الجنود التي يريدها،

ومِن يقف بكاميرات الرصد من المجاهدين ويتابع ما يجري في أرض العدو مما يقع تحت النظر يظن أنَّ هذا السلوك إنما هو في الإطار المعتاد في المناورات.

 وبالفعل تمكن العدو من خديعة المقاومة، وتسلل إلى منطقة القرارة، واعتقل ثلاثة من المجاهدين، وأفسد على المقاومة كثيرًا من تدبيرها.

 وقبل مسيرة الأعلام بيومٍ واحد

كان العدو قد أرجع جميع قواته 5 كيلو متر من السلك الفاصل بيننا وبينه،

بحيث إنَّ القوات المجاهدة المستنفرة لا ترى أي حضور لقوات العدو الصهيوني على امتداد 5 كيلو متر.

 فالعدو إذن إلى جانب تفعيل القُبَّة الحديدية فوَّت إمكانية إنجاز عسكري على الحدود،

وكان على أهبة الاستعداد لدخول المعركة ليشكل صدمةً ناريةً شرسة في البلد،

وقد هيأ جبهته الداخلية، مما يعني أنَّ المقاومة لو دخلت في ظل هذه المعطيات فلن تحقق كبيرٍ شيء.

 ولهذا أعيد رأيي الذي صَدَّرتُ به المقال أنَّ تمرير مسيرة الأعلام لم يكن صوابًا بحسب ما يظهر لي،

وأنا لا أدري ما الذي يجري في مجالس القيادات العسكرية،

إلا أنه ليس شرطًا أن تندلع مواجهةٌ من غزة، وكان يكفي إشعال الجبهات الداخلية كالضفة والقدس وأراضي 48.

 فالقضية إذن ليست مجرد قصف صاروخي وإشعال معركة حامية الوطيس؛

وإنما يلزم إدارتها على الوجه الذي ينبغي من التدبير،

ولو رجعت إلى أخبار خالد بن الوليد رضي الله عنه في المعارك فلسوف تجد أنَّ عقليته وعبقريته فاقت شجاعته ومهارته،

وأكثر المواطن التي مرَّغ فيها أنف الكفرة كانت ترجع لدقة التدبير والخديعة وما إلى ذلك.

هذا والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين

من د. محمد الأسطل

من علماء غزة وفقهائها