كان والدي قبل أيام يتحدث – بألم- عن حملات العمرة المتكاثفة التي صار الواحد يقلد فيها الآخر ثم قال: (لقد صارت العبادةُ شهوةَ نفس).

 

كنت أعلم هذا المعنى، ولكن كلماته كان لها وقع المفاجأة علي، واستغربت كيف عبر عنه بثلاث كلمات فقط: العبادة شهوة نفس..!

 

قلت: هذا أصل من أصول البلاء عظيم، حين تصير شهوة نفس لا تكون عبادة لله، بل للنفس، وما أصعب تخليص العبادة من هذا، ثم ذكرني والدي بقصة عظيمة للإمام بِشر الحافي توضح ذلك، وأنا أنقلها لكم لتعلموا ماذا يعني تحول العبادة إلى شهوة ..

 

ذكروا من سيرة الإمام الزاهد سيدنا أبي نصر بشر الحافي عليه الرضوان أن رجلا جاء يودعه إلى الحج فقال: قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء؟

 

فقال له: كم أعددت للنفقة؟ فقال: ألفي درهم.

 

قال بشر: فأي شيء تبتغي بحجك؟ تزهدا؟ أو اشتياقا إلى البيت؟ أو ابتغاء مرضاة الله؟

 

قال: ابتغاء مرضاة الله.

 

قال: فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى؛ أتفعل ذلك؟

 

قال: نعم.

 

قال: اذهب فأعطها عشرة أنفس؛ مديون يقضي دينه؛ وفقير يرم شعثه؛ ومعيل يغني عياله، ومربي يتيم يفرحه، وإن قوي قلبك تعطيها واحدا فافعل؛ فإن إدخالك السرور على قلب المسلم، وإغاثة اللهفان، وكشف الضر، وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام، قم فأخرجها كما أمرناك وإلا فقل لنا ما في قلبك.

 

فقال: يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي.

 

فتبسم بشر رحمه الله وأقبل عليه وقال له: المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطرا، فأظهرت الأعمال الصالحات وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين.

 

قلت: انظروا كيف انتظم المالُ الحلال -في نظر بشر- أطياف الأمة، مع نية العبادة، وكيف أن اقتراحه لم يترك طبقةً من طبقات المجتمع إلا وسدّ حاجتها، وكيف أن مفهوم العبادة تحوّر عند صاحبه حتى صار يريد به إرضاء نفسه بأنه عابد بعبادة مجانية لا تكلفة فيها لأن أثرها وذكرها يعود على نفسه، فحين صار المطلوب أن تعود على الغير ثقلت عليه العبادة، وتأملوا حال ملايين تصرف يوميا، لا لعبادة بل لأن صاحبها يريد إضافة إلى (سيرته الذاتية) و(صوره الخاصة) بقولهم (حاج) أو (معتمر) ..

 

إلا من رحم الله …

 

وآخر ما قاله الوالد ما لاحظه أحد أصدقائه، أخبر أنه كان يطوف بالبيت ويتأمل المتزاحمين حاملي الهواتف المنشغلين بـ(برج الساعة اللعين) ..قال: حاولت أن أرى فيهم باكيا خاشعا فما رأيت إلا لاهيا ذاهلا … لقد ذهبت الحرمة، وارتفع الخشوع.. ويقول والدي -مستثنيا-: حاشا أهل القبول ..!

 

أما أنا فتذكرت قوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم مُحدثٍ إلا استمعوه وهم يلعبون لاهيةً قلوبهم ..}، وتذكرت صنفا قال تعالى فيهم: {اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ..}

 

من الممكن جدا أن تتحول العبادة إلى لعبة، ولهو .. و(سير ذاتية)، أما روح العبادة التي أخبر عنها بشر -ري الله عنه- فهي ما يراد تغيببه ..

 

الله المستعان …

 

صلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ..

من محمد تاج الدين

أديب وشاعر جزائري