في يوم 19 أكتوبر 2003، رحل عن عالمنا المفكر والفيلسوف المجاهد علي عزت بيجوفيتش، ليُسدل الستار بحكم لحظة الوداع على مسيرة طويلة من العمل لأسلمة مسلمي يوغسلافيا مجددا.
والمتأمل للحظة الوداع يجد هذه المفارقة الواسعة بين لحظة الوداع وأحلام البدايات، فأكثر المتفائلين بل هو بيجوفيتش نفسه وهو ورفقائه يقاسون معا نضج الفكرة والتضحيات في سبيلها لن يتخيل أن البوسنة اليوغسلافية التي كان مجرد دخول المسجد فيها أمرا مريبا، ستمتلئ أزقتها يوما بالأطفال يزينون الكتاتيب ومساجدها يعمرها الشباب، حتى أنه عَنْوَن الكتاب الأول “البيان الإسلامي” بكلمة تمثل الهدف فكتب “لأسلمة المسلمين” وفكرة الكتاب تدور حول أهمية العودة للإسلام الصحيح فهو وحده الذي بمقدوره إعادة إحياء المسلمين وجعلهم أكثر قدرة على ممارسة دور فعال.
الإسلام من إرث عائلي إلى حالة فكرية معيشية
منذ صغره كان بيجوفيتش يقرأ في المدارس الفلسفية المختلفة فلفظ الشيوعية وتمرد على ذلك الإسلام الطقوسي الذي ورثه وحوله إلى حالة فكرية يجاهد في سبيلها وفي سبيل ترسيخها كواقع معاش في حياة مسلمي البوسنة.
ويقول في مذكراته إنه أعاد إنبات عقيدته مجددا وحول الإسلام من ميراث عن العائلة إلى حالة فكرية معيشية قائمة على التوصل للحقائق بإعمال العقل، وأصبح الإسلام بالنسبة إليه دينا جديدا اعتنقه عن قناعة وفهم ولم يفقده بعد ذلك أبدا حتى سخر له كل حياته.
الشباب المسلم
ها هو بيجوفيتش في ثورة شبابه، يتألم لحال المسلمين شبه المستسلم للأمر الواقع الذين يضيق الخناق يوما بعد يوم عليهم ويُغيّب هويتهم، ولا يرضيه واقع المشايخ والعلماء الذين يبدو أنهم يتماهون مع الواقع بعكس حاله يميل إلى الثورة بل المغامرة، وهنا تظهر “جمعية الشباب المسلم” التي تأسست من أجل الحفاظ على الإسلام في هذه البقعة، على يد طلاب في الثانوية، لتحرك المياه الراكدة في واقع المسلمين وينضم إليها بيجوفيتش ويصبح من أنشط أعضائها.
مثلت جمعية الشباب المسلم الباب الذي يمكنه من خلاله بذل طاقته في خدمة الإسلام، لاسيما وأنها في رأيه قدمت أفكارا توافقت مع ميوله، وقدمت طرحا يوضح العلاقة بين الشكل والجوهر للإسلام بخلاف ما كان معتادا في الكتاتيب آنذاك، وهو ما ذكره في كتابه “سيرة ذاتيّة وأسئلة لا مفرّ منها”.
في عام 1941م انضوت جمعية الشباب المسلم تحت راية جمعية العلماء “الهداية” كفرع شبابي لها، والتي كان يرأسها الشيخ محمد هانجيتش الذي درس في الأزهر، لكن الانضمام لجمعية العلماء لم يكن يروق لبيجوفيتش، إلا أن التعطش للإسلام فتح الباب واسعا لانضمام كثير من الشباب إلى جمعية الشباب المسلم، التي اتسع نشاطها وحضورها في أوساط الشباب بالمدارس والجامعات في البوسنة بل وحتى في زغرب عاصمة كرواتيا.
الشيخ محمد هانجيتش
آنذاك انتهت الحرب العالمية وانتصر “تيتو” وأعلن يوغسلافيا الاشتراكية، وعاد بيجوفيتش إلى سراييفو، ويعيد الصلة مع الشباب المسلم، بالتزامن مع هذا أراد الشيوعيون تشكيل جمعية “بريبورود” بمعنى الصحوة عام 1945م، فوقف ضدها بيجوفيتش ورفاقه، ليتم اعتقاله في ذات اليوم مساء، لكن أفرج عنها سريعا.
الإفراج السريع عنه وزملائه، جعلهم يظنون أن الأمر سهلا، فانطلقوا في أنشطتهم بحماس أكبر، لكنهم في نفس الوقت كانوا تحت المراقبة، وهو ما جعلهم ضحية الاعتقال مجددا في مارس 1946م، هو و14 من رفاقه، حكم عليه بالسجن 3 سنوات، لكن هذا الاعتقال أنقذه من الموت، فصديقه “خالد كايتاز” الذي تولى مكانه في جمعية الشباب المسلم اعتقال لاحقا وتم إعدامه.
الدراسة والزواج
نحن الآن في عام 1949م بيجوفيتش يكمل عامه الـ24، حان وقت الزواج والعمل، يتزوج بزوجته “خالدة” ويعمل بعيدا هناك في الجبل الأسود خارج ساحة الصراع، وينتسب للجامعة ليدرس تخصص الزراعة والغابات، ثم ينسحب منه وينتهي من دراسة ليسانس القانون، وأنجبا ابنتيهما ليلى وسابينا وابنهما باكر.
السبب هنا في دراسة القانون والتخلي عن الزراعة، أن القانون يجعلك داخل الحراك السياسي والقانوني مرتبطا بالمدينة ومركز القرار، أما مجال الزراعة فيربطك بالغابات والمزارع خارج المدينة وبالتالي خارج الحراك السياسي، وهذا يكشف عكس ما قد يُظن أن بيجوفيتش عزف عن فكرته، بل كل ما في الأمر أن الرجل يعد العدة لا أكثر.
العودة
يرجع بيجوفيتش مجددا إلى سراييفو ويعيد التواصل مع جمعية الشباب المسلم، ويستعيد نشاطه، ويتعرف على د. الفاتح علي حسنين ذلك الطالب الذي جاء من السودان لدراسة الطب في يوغسلافيا، وتبدأ مرحلة العمل مجددا، ويستفيد الشباب الطامح في التغيير من شيوعية تيتو التي تتيح ملكية فردية محدودة، ويتحركون في ترجمة كتب إسلامية حركية وصناعة حالة من أسلمة المجتمع المسلم ظهرت واضحة في المساجد وتبادل أجزاء من الكتب بين الشباب، فوجدت حالة يمكن اعتبارها صحوة إسلامية.
السجن مجددا
نشاط بيجوفيتش ورفاقه لم يعد خافيا على أحد، ينظر إليه من هم في المعسكر الشيوعي باعتباره خطرا يهدد بصحوة إسلامية، وهو ما لابد من وقفه، فكان الاعتقال مجددا في 23 مارس 1983م، وكانت المحاكمة الشهيرة التي حكم على بيجوفيتش فيها بالسجن 14 عامًا وعلى زملائه بمدد متفاوتة.
لكن هذه المحاكمة وهذه العقوبة كانت بمثابة الباب الذي يدخل منه بيجوفيتش ورفاقه مجددًا إلى العمل معًا لكن هذه المرة في قيادة الدولة.
خلال محاكمته هذه المرة، وبينما كان بيجوفيتش حبيس الزنزانة وقاعة المحاكمة، كانت كلمته الشهيرة تتداول في كل بيت بالبوسنة، حينما وقف في القاعة يقول: “لقد سخرت حياتي كلها للإسلام” وجملة “لقد منحت كل ما عندي من الحب للإسلام”.
بعد 5 سنوات و8 أشهر في السجن، من إجمالي العقوبة 14 سنة، خرج بيجوفيتش للنور مجددا كما أن إيمانه بالفكرة الإسلام لم يكن بمقدور سنوات حبسه أن تطفئه، وصدر قرارا بالعفو عنه في نوفمبر 1988م، رغم محاولات إقناعه سابقا بتقديم طلب للعفو لكنه رفض بشكل قاطع قائلا: “إذا فعلت هذا فمعناه أنني مذنب، وأنا لست مذنبا”.
الطريق إلى الرئاسة
في عام 1990م أنشأ علي عزت بيجوفيتش مع زملائه حزب “العمل الديمقراطي SDA”، وكانت المفاجأة وفاز الحزب بأغلبية مقاعد البرلمان البوسنوي، وانتخب بيجوفيتش رئيساً للبوسنة في أواخر 1990م، وفي 29 فبراير أجري استفتاء شعبي في البوسنة على الاستقلال عن يوغسلافيا، صوّت غالبية المشاركين فيه لصالح خيار الاستقلال، لكن هذه النتيجة لم يقبل بها صرب البوسنة أو نظراؤهم ممن تبقوا في يوغسلافيا، فشنوا حرب إبادة ضد المسلمين راح ضحيتها عشرات الآلاف من مسلمي البوشناق فضلا عن آلاف النساء ضحايا الاغتصاب، وتدمير مئات المساجد.
انتهت هذه الحرب بتوقيع اتفاقية دايتون في ديسمبر 1995م، والتي قسمت البوسنة إلى فيدراليتين واستبدلت مقعد الرئيس بمجلس رئاسي ثلاثي، إلا أن بيجوفيتش وصفها بـ”السلام المر” وهناك عبارة منسوبة إليه تقول” اتفاقية ظالمة خير من حرب ظالمة”.
بعد انتهاء الحرب يستمر بيجوفيتش في قيادة البوسنة حتى أكتوبر من عام 2000، ثم يغادر مبنى الرئاسة كما هو لم يتغير كما عاش وناضل وزهد إلا في أفكاره، وفي 2003 يتعرض لوعكة صحية يدخل على إثرها المستشفى يرقد هناك حتى يكتب الصفحة الأخيرة في مسيرة نضاله، ويتم دفنه بمقبرة الشهداء في سراييفو، وهو الذي قال “لو عرضت علي الحياة مرة أخرى لرفضتها، لكن لو كان علي أن أولد من جديد لاخترت حياتي”.
- محمد سرحان يكتب: بيجوفيتش.. مسيرة مفكر وتضحيات مجاهد - أكتوبر 20, 2022
- محمد سرحان يكتب: كشمير.. القصة من البداية - أكتوبر 2, 2022
- محمد سرحان يكتب: تجربتي مع الغربة - يوليو 5, 2022