إن أشرف شهور العام شهر رمضان؛

 فـ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185]،

وقال مبشرًا أصحابه:

«قد جاءكم شهر رمضان، شهرٌ مبارك، افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنَّة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم»(1).

وإن أشرف مكان في المسجد هو المحراب، قال -تعالى:

﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)

فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾

 [آل عمران: 37-39]،

قال البغوي:

«المحراب أشرف المجالس ومقدَّمها، وكذلك هو من المسجد، ويقال للمسجد -أيضًا: محراب»(2).

وهو مكان العبادة المحضة؛ إذ قد نمكث في المسجد للكلام والحديث والمسامرة، لكن المحراب لا يكون إلا للعبادة والذكر والقراءة والقيام.

وإن أشرف عضو بالجسم هو القلب، قال :

«إِنَّ فِي الْجَسَدِ مضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ»(3)،

قال ابن حجر: «خص القلب بذلك؛ لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب والحث على صلاحه»(4).

وغاية الصيام تحصيل التقوى؛ لقوله -تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].

والتقوى محلها القلب؛ لقوله : «التَّقْوَى هَهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ(5).

فرمضان شهر تتوفر فيه كل الأجواء للقلب أن يصفو من الأكدار،

وينقَّى من الشوائب، وينقطع عن كل ما يجذبه إلى عنصره الأرضي السفلي، ويرتقي في معارج القُرب.

فالجنان مفتَّحة، والنيران مغلَّقة، والشياطين مصفَّدة، والأمة مجتمعة على الخير، يعين بعضهم بعضًا.

وتوفير كل تلك الأجواء للقلب تجعل الجوارح نشيطة مقبلة على الطاعة، لا تستثقل صيامًا ولا قيامًا ولا قراءة للقرآن، ولا سعيًا في حوائج الناس… إلخ.

فـ«بين الجوارح وبين القلب علاقة، حتى إنه يتأثر كل واحد منهما بالآخر؛ فترى العضو إذا أصابته جراحة تألم بها القلب،

وترى القلب إذا تألم بعلمه بموت عزيز من أعزته أو بهجوم أمر مخوف تأثرت به الأعضاء وارتعدت الفرائص وتغير اللون،

إلا أن القلب هو الأصل المتبوع، فكأنه الأمير والراعي والجوارح كالخدم والرعايا والأتباع.

فالجوارح خادمة للقلب بتأكيد صفاتها فيه، فالقلب هو المقصود، والأعضاء آلات موصلة إلى المقصود»(6).

فما يموج بالقلب ويغلب عليه تظهر آثاره على الجوارح، وإن ما يهجم عليه من الواردات والأحوال لتظهر على الجوارح،

فإذا نشط القلب نشطت الجوارح، وإذا ثقُل القلب ثقلت الجوارح.

يقول ابن عطاء الله السكندري:

«تَنوَّعتْ أجناسُ الأعمالِ لتنوُّعِ وارداتِ الأحوالِ»، «أي: اختلفت أجناس الأعمال الظاهرة لاختلاف الواردات التي هي الأحوال القائمة بالقلب؛

فإن الواردات ما يرد على القلب من المعارف والأسرار والأعمال الظاهرة تابعة لأحوال القلب؛

فإذا ورد على القلب العلم بفضائل قيام الليل توجَّه إليه وآثره على غيره فتقوم به الجوارح، وكذلك الصدقة والصيام وباقي الأعمال»(7).

وإذا انشغل القلب بالدنيا أقبل عليها ونسي الآخرة بقدر انشغاله، ولا يعطي للآخرة حظها ولا يسعى لها سعيها ولو كان عنده من الوقت والفراغ الكثير.

قال أبو معاوية الأسود:

«من كانت الدنيا أكبر همه طال غدًا في القيامة غمه، ومن خاف الوعيد لها من الدنيا عما يريد، ومن خاف ما بين يديه ضاق ذرعه بما في يديه،

إن كنت يا أبا معاوية تريد لنفسك الجزيل فلا تنم الليل ولا تقل، قدم صالح الأعمال، ودع عنك كثرة الأشغال، بادر بادر قبل نزول ما تحاذر»(8).

ويحتاج القلب في بعض الأحيان أن ينقطع عن الناس، ويبتعد عن الانغماس في أخبارهم وأحوالهم ليلم شعثه، وليصلح أمره، وليعيد ترتيب أولوياته.

والانعزال والانقطاع عن الناس في بعض العبادات أبعد عن الرياء، فالقلب قد ينشغل بالناس ورأيهم ويُعجب بما عليه حاله.

وإذا وقع القلب في الرياء حبط العمل؛ فكان النصب والتعب ولا فائدة مرجوة تعود على صاحبه.

وتلك الخلوة وهذا الانقطاع والاستخفاء عن أعين الناس يجده القلب في تهجده في الليل؛ حيث يجد الأنس بربه، فتحلو له المناجاة والدعاء والتضرع.

وإذا عرف مقدار الأجر والثواب أقبل على الله بكليته، وعزم على اغتنام الفرصة واهتبالها،

قال : «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»(9).

فالقلب صدَّق وأيقن بفضيلة القيام، وقصد بذلك وجه الله، ولم يخالط عمله رياء ولا سمعة،

فكان الجزاء العظيم بغفران الذنوب حسب مشيئة الله -تعالى- في نوع تلك الذنوب، سواء أكانت مستوعبة للكبائر أم مقتصرة على الصغائر(10).

والتهجد انقطاع جزئي، لكن هناك انقطاع كلي واظب عليه المصطفى -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- تمثَّل في الاعتكاف؛

فعن أَبِي هرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ يَعْتَكِفُ فِي كلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا(11).

وقد كَانَ اِبْن شِهَاب الزهري يَقُول:

«عَجَبًا لِلْمسْلِمِينَ، تَرَكُوا الاعْتِكَاف، وَالنَّبِيُّ لَمْ يَتْرُكْهُ منْذُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ»(12).

هذا الاعتكاف يجعل القلب نقيًّا يتشبع بأنوار الحق، صافيًا يتلقى الإشارات الربانية، غائبًا عن عالم المادة، سابحًا في عالم الملكوت.

فإذا خرج القلب من رمضان بعد الصوم والقيام وتلاوة القرآن والاعتكاف والصدقة وغيرها من أعمال البر خرج وهو قادر على مواجهة كل صارف عن الحق من شياطين الإنس والجن، خرج وهو متمكِّن من لجم نزواته وشهواته، خرج وهو مستقيم على أمر ربه.

فإذا كان حال القلب قبل رمضان وأثناءه وبعده سواء، فهو قلب محروم مختوم عليه،

قال رسول الله : «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَانْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يغْفَرَ لَهُ»(13).

لكن القلب الذي جعل رمضان محرابه الذي زاد فيه من تعبُّده واجتهاده فهو قلب فائز ناج.

قال الحسن البصري: «إن الله تعالى جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا،

وتخلَّف أقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المبطلون»(14).

الهوامش

(1) أخرجه أحمد في «مسند أبي هريرة»، ح(8991)، وقال شعيب الأرنؤوط: “حديث صحيح”.

(2) معالم التنزيل في تفسير القرآن، (2/32).

(3) جزء من حديث أخرجه البخاري في «الإيمان»، باب: «فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ»، ح(52)، من حديث النعمان بن بشير.

(4) فتح الباري، (1/128).

(5) جزء من حديث أخرجه مسلم في «البر والصلة والآداب»، باب: «تَحْرِيمِ ظلْمِ الْمسْلِمِ وَخَذْلِهِ وَاحْتِقَارِهِ وَدَمِهِ وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ»، ح(2564)، من حديث أبي هريرة.

(6) الغزالي: إحياء علوم الدين، (4/367).

(7) عبد المجيد الشرنوبي: شرح الحكم العطائية، ص(22) باختصار.

(8) البيهقي: الزهد الكبير، ص(207).

(9) أخرجه البخاري في «الإيمان»، باب: «تَطَوُّعُ قِيَامِ رَمَضَانَ مِنَ الإِيمَانِ»، ح(37)، من حديث أبي هريرة.

(10) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (6/39-40).

(11) أخرجه البخاري في «الاعتكاف»، باب: «الاِعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ»، ح(2044).

(12) فتح الباري، (4/285).

(13) جزء من حديث أخرجه أحمد في «مسند أبي هريرة»، ح(7451)، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على «المسند».

(14) إحياء علوم الدين، (1/236).

من محمد فتحي النادي

باحث في الفكر الإسلامي - مؤلف ومحقق