كنتُ برعما بمشاعر رطيبة، ما زلت أتحسس الطريق واكتشاف مفردات الحياة ومعانيها، كنت بحاجة لمن يفض لي بكارتها.
بعيون رانية تشارك بقية حواسي مهمة الاكتشاف وفك الشفرات، خالتي انتابتها آلام الولادة، تحضر القابلة ” أبلة نعيمة” التي لم تنجب بعيونها الواسعة المحاطة بأطار من الكحل أعلى جفونها فتصبح في نظري تشبه العفريت، بدينة بمقعدة تكاد تكون منفصلة عن جسمها من فرط تمددها، لذلك لا يصح أن يقال عنها سوى حضرت أبلة نعيمة وأردافها.
بوجهٍ عبوس تقول لخالتي التي تتألم، بطنك عينها جامدة، على الفور ألتقط منها الجملة الأخيرة وأعيدها مستفسرة عن معناها.
تنهرني أمي وجدتي وتشيران لي بـ (الدخول جوة) وإلا فالعواقب وخيمة.
استجيب ولا أُحكِم إغلاق الحجرة وإنما أبقي على فرجة منها لأتمكن من الإطلال على المشهد الجديد عليّ؛ فأسمع أبلة نعيمة وهي تقول لأمي: “قهوة على الريحة”.
يقتلني الفضول أريد معرفة معنى “قهوة على الريحة” والتوصيف السابق لبطن خالتي الموشكة على الوضع.
يحضر جدي الآخر، أخو جدي لأمي ويجلسا معي في نفس الحجرة وفتحا الباب تماما بينما جدتي وأمي وخالتي والقابلة أحكمن إغلاق باب الحجرة التي تحتويهن تماما.
أسمع صوت استغاثة خالتي بينما جدي ينادي أمي ويقول لها: “قهوة على الريحة”
فأسأل جدي عن معناها.. يضحك الاثنان معا ويقول جدي الآخر تندرا عليّ، نعمل فنجان لك معنا.
لم يشف فضولي فأسرعت إلى أمي وقلت لها وأنا قهوة على الريحة.
تلتفت أمي لي دون إجابة وتقول لي:
“الصغار لا يشربون القهوة ولا يتدخلون في أمور الكبار”
يقتلني الفضول.
أخذت أمي القهوة لتقدمها لجدي.
فانتهزت الفرصة، علبة البن أمامي فلماذا لا أمارس معها عادتي مع علبة الكاكاو فأخذتها مع ملعقة صغيرة وتسللت إلى حجرة خالي الخالية من سواي، وجلست وأنا أتكيء بظهري للخلف اطمئنانا وتمكنا واستعدادا لوجبة البن الجديدة علىّ، وملأت الملعقة بالبن كما أفعل مع الكاكاو ووضعتها في فمي ولم يستغرق الأمر ثانية واحدة حتى تغشاني مرارته التي ألجمتني وأوقفت عقلي عن التفكير وكأن حركتي شُـلّت فلا أعرف ما أفعل.
كادت تفيض عيناي وجاءت أمي لترى المشهد الذي كنت به أتوارى عن الأنظار.
وتلمَّسَت القشعريرة التي سرت بي فأخذتني إلى الحوض وفتحت الصنبور وأخذت تأمرني بالمضمضة واستخراج ما بفمي وتكرار الفعل حتى تمام التنظيف وأنا أمتثل لها صامتة.
حتى خف أوارالمرارة بعد تكرار الغسيل ولكنها لم تفارقني وغسلت لي أمي ما علق بشفتي من البن.
لم أبح بما ألمَّ بي ولكنها استشعرت قشعريرة تملكتني وأبقت على طبقة من الدموع عالقة بعيوني.
أرادت أن تمحي المرارة التي علقت بفمي فصحبتني إلى المطبخ ووضعت في فمي مكعب سكر لأظل استحلبه بعض الوقت حتى تزول مرارة البن، وظلت تردد على سمعي (تصورتي أن البن مثل الكاكاو جئتِ بالعلبة والملعقة، البن مشروب الكبار لا الصغار)
ما زلتُ أتطلع إليها في صمت كمن تستزيد في الكشف، بينما هي مستمرة في النهر الناعم لي، الصغار لا يتدخلون ويسألون في كل شيء، عيب ويقولوا عليك لم أحسن تربيتك كلما كبرتِ ستعرفين ما استغلق عليكِ، لكل سن إدراك مختلف وتعامل مختلف.
جدتي تنادي أمي لتأتي بالماء الساخن في عجالة ورغم انشغالي بإزالة مرارة البن التي ما زالت عالقة بفمي بصورة ما فلم أنس أن أسألها عن دور الماء الساخن في هذه الحجرة المغلقة.
لم تجبني ولم تشف فضولي المشتعل ولم تزد على قولها: “لطفك يارب”.
على الفور وبمجرد أن أنهيت قطعة السكر بفمي وضعت بعض القطع في جيبي استعدادا لفعلة أخرى سأفعلها مهما حدث.
هرعت إلى جداي وكانا قد أنهيا شرب القهوة وحديثهما محتدم عن من المخطيء السادات أم سعد الدين الشاذلي فيقول جدي لأمي المؤيد للسادات:
السادات ثعلب سياسة، أيضيع البلد والآخر مجنون حرب.
فقال جدي الثاني الذي استخدم لغة الجسد لتدعمه فرفع أصابعه الثلاثة الخنصر والبتصر والوسطى وقال:
بل الشاذلي معلم والسادات لا يصلح أن يكون صبي من صبيانه، السادات لم يحارب ولا يعرف أي شيء عن الحرب.
وقبل الاسترسال في السجال الذي لن ينتهي باغتهما بالقول:
“مجانين”
ومرقت مسرعة إلى سطح المنزل اختبيء حتى تحضر خالتي الصغرى من المدرسة لأحتمي بها من ردة فعلهما.
وقفت أشب على أصابعي أطالع الطريق كي ألمح خالتي وهي قادمة وكلما ذاب مكعب السكر بفمي أتبعته بآخر حتى جاءت من المدرسة.
فتسللت في هدوء على أطراف أصابعي أنزل درجات السلم كي أرافقها وهي تدخل الشقة.
رافقتها في هدوء واستشعرت احتمائي بها فابتسمت قائلة: “عملتِ إيه؟”
يدعم موقفي أن الكل أصبح مشغولا بخالتي الأخرى التي تلد.
قمت بسرد مستفيض أصف ما فعلت وما قلت.
فضحكت حتى بانت نواجذها وهي تقول:
لن تتغيري.. تلعقي البن كالكاو ثم تستطرد: عيب نقول مجانين “جدو وجدو”
أقول هو في حد عاقل يشرب مر.
الكبار يختلفون، بمذاقها المر تعطي بعض المتعة والراحة النفسية.
في متعة مع المر.
ما من متعة إلا ويسبقها المر هكذا هي الحياة.
ولم أنس أن أستفسر عن ما قالته أبلة نعيمة:
عندما تصبح المرأة حاملا يصبح لبطنها عيون مثل عيون الوجه؟.
تضحك مرة أخرى حد الثمالة ثم تقول: ” عيون؟!!”
أبلة نعيمة كانت تقول لخالتي بطنك عينها جامدة.
تضحك مرة أخرى وتقول: كلام ستات يعني أنها لن تلد الآن.
نسمع صراخ الصغير وهدوء صوت خالتي فلم تعد تتألم، مضى قليل من الوقت حتى انصرفت أبلة نعيمة وهي تقول لخالتي الصغرى:
“عقبى لكِ في بيت العدل”
وعلى الفور أسأل خالتي: “يعني إيه”
يضحك الكل وأمي تقول نعمل فيك إيه؟!!!
دخلنا حجرة خالتي التي جلست لترضع وليدها.
هنأها الجدان بالسلامة وقام الجد الثاني بمد يده إليها بمبلغ من المال وعلى الفور أسأله
لماذ يفعل ذلك؟
فضحك وانحنى يقبلني ويربت على ظهري ويمسح على شعري وقال: “سكر”
فقلت له: مازال معي قطعة خذها.
ويضحك مرة أخرى دون إجابة وأعطاني ربع جنيه.
اقتربت من الوليد وأنا أقول هذا لي سأحمله وأحدثه حتى يكبر ويتكلم.
فتقول أمي مازال صغيرا لا يُحمل.
أتأمل ملامح خالتي التي ارتسم الهدوء والسكينة على ملامحها فلم تعد تتألم وإنما أمارات الارتياح مصحوبة بسعادة من نوع ما على وجهها والكل حولها سعيد بسلامتها وطفلها الجديد،
أنهيت استحلاب قطع السكر، وزالت من فمي مرارة البن كما زالت آلام خالتي.