مصطفى البدري

الشيخ العظيم أبو إسحاق الحويني، غبتُ عن هذا الأزرق عدة أيام، فعدتُ لأجده مليئًا بالحديث عن هذا الجبل الأشم.

 

البعض يمدح والبعض يقدح، البعض يثني والبعض يشين، البعض يرفع من شأن علمه والبعض يضرب أصول منهجه!!

 

فأردت أن أخبركم بشيء من خبري معه:

 

هذا الرجل لي معه مواقف كثيرة، وبيننا زيارات عديدة، كما اختلفت معه كثيرًا.

 

من أبرز مواقفي معه: عندما بدأت حضور دروسه (شرح صحيح مسلم، أظن عام ٢٠٠٠) قال جملة لم أفهمها، فراجعته وسألته، فشرح وبين.. ولَم أفهم!! فأعدت السؤال… وهكذا، حتى استغرقت معه وحدي قرابة العشرين دقيقة!! والطلبة يتململون من سؤال طالب مستجد يصعب عليه فهم ما يدرسونه عبر سنوات، في حين لم يبدِ الشيخ أي ضجر مني، بل حرص على احتوائي؛ حتى قال لي ممازحًا: بص يا حبيبي.. أنت بس احفظها زي ما قلتها كده، وبعدين تفهمها إن شاء الله.

 

وكانت المسألة عبارة عن زيادة لأحد الرواة في ألفاظ الحديث؛ فجاءني الطلبة بعد الدرس يعنفونني على صنيعي وما تسببت فيه من تعطيل للدرس وإرهاق للشيخ!!

 

وفي الدرس التالي مباشرة وجدتُ الشيخ ينظر لي ويبتسم؛ ثم قال كلامًا عامًا بأسلوبه الرشيق اللطيف (مفهوم أنه لي أنا وأمثالي) فحواه: تعلُّم علوم الحديث أمر صعب وشاق، ويحتاج إلى صبر ونَفَس طويل؛ ثم قال وهو ينظر لي: اصبر معانا عشر أحاديث.. عشرين.. خمسين.. مائة، ولو ساعتها لقيت نفسك مش فاهم.. أوعدك نشوفلك شغلانة تانية.

 

ومن أبرز المسائل التي خالفته فيها (المشاركة في الثورة) حيث كان يرى السكوت وقتها، في حين عرف أنني شاركت ودعوت للمشاركة، فزارنا في العبور بعد أشهر من ثورة يناير، واجتمعنا في بيت أحد الإخوة الأفاضل، وكان معه أبناؤه وبعض المقربين منه؛ ثم قال: أخبرني يا شيخ مصطفى (كذا قال) عن وجهة نظركم في المشاركة، وبدأنا الحوار والنقاش، فكنت أتكلم أكثر منه!! فقاطعني أحد رفقائه قائلا: تكلمتَ كثيرًا؛ فأعط فرصة للشيخ كي نتعلم منه.

 

فقال له الشيخ: كلامي معروف لكم وأنتم سمعتموه كثيرًا؛ دعونا نسمع وجهة النظر الأخرى.

 

ثم كان من أهم ما قاله لي: أنتم الآن تعيشون نشوة الانتصار، ولابد أن تعلموا أن المعركة بدأت للتو وليس كما تظنون أنها قد انتهت!! ولعل أفضل شيء قمتم به هو أمر اقتحام مقرات أمن الدولة، لكنكم لم تكملوه، وبالتالي.. فالقادم سيكون سيئًا وعنيفًا.

 

وهذه الكلمة حفظتها منه، وكنت أرددها كلما مرت الثورة بحالة محنة.

 

ومما لا أنساه للشيخ أيضًا.. أنني في أول زيارة له في بيته أهديته زجاجة عطر؛ فكان رد فعله أن بكى، وقال: الناس يقدروني ويرفعون شأني؛ في حين أعلم يقينًا أني لا أستحق شيئًا من ذلك، ثم شكرني على الهدية.

 

لا أحدثكم هنا عن علمه؛ فأنتم تعرفون ذلك جيدًا، لكني أحدثكم عن آثار هذا العلم، وكيف رُزِق الشيخ الحلم والحكمة والبصيرة والتواضع والكرم.

 

فلله دره من رجل عظيم، يُعَدّ بحق أحد عمالقة هذا العصر.

مصطفى البدري

من مصطفى البدري

باحث وداعية إسلامي. عضو المكتب السياسي للجبهة السلفية. مراجع لغوي بالرابطة العالمية للحقوق والحريات، والندوة للحقوق والحريات.