الولايات المتحدة باتت بين أمرين كلاهما مر، إما التخلف عن سداد الديون الخارجية مع عدم توفر سيولة مالية لدى الدولة، أو خفض الإنفاق الحكومي بشكل حاد مع تضخم الدين العام وبلوغه مستويات قياسية.
وكلا الأمرين قد يقودان الاقتصاد الأمريكي إلى طريق مسدود ونتائج وعرة، وربما الدخول في نفق الكساد المظلم، الذي تحاول إدارة جو بايدن الإفلات منه بأقل التكاليف عبر محاربة التضخم الجامح، والرفع المتواصل لسعر الفائدة على الدولار، وتشدد البنك الفيدرالي في السياسة النقدية.
في ظل هذه الأجواء التشاؤمية وأزمة ديون تاريخية تعيشها الولايات المتحدة هذه الايام، اندلعت معركة ساخنة بين البيت الأبيض وإدارة بايدن من جهة، والكونغرس من جهة أخرى، أو بمعنى آخر بين الحزبين الحاكمين في البلاد، الديمقراطي والجمهوري.
محور المعركة هو الخلاف العميق حول رفع سقف الدين العام الحالي، وهو قيد قانوني وضعه الكونغرس للمرة الأولى عام 1917، وبموجبه يحدد أكبر مبلغ مسموح للولايات المتحدة استدانته للإنفاق على تسيير أنشطة الحكومة، وقد تحدد الرقم في ديسمبر 2021 عند 31.4 تريليونً دولار، وهذا الرقم لا يمكن تجاوزه، وإلا ستكون هناك أزمة دستورية كبيرة.
عقب الوصول للمستوى المحدد للدين بدأت المعركة بين الحزبين الحاكمين يوم 19 يناير الماضي، عندما تجاوزت الحكومة الرقم المخصص لاستدانته عبر السندات وأذون الخزانة، وإصرار حكومة بايدن على رفع السقف أسوة بما حدث من قبل مع حكومات أخرى، أبرزها بوش الابن وباراك أوباما وغيرهما.
ورفض نواب الكونغرس هذا الرفع لأسباب عدة منها ما يتعلق بمناكفات سياسية، وربط الموافقة بتخفيضات في الإنفاق الحكومي، خاصة وأن حجم الديون العامة بات يعادل 6 أضعاف ما كانت عليه في بداية هذا القرن.
البيت الأبيض يدعم وبكل قوة محاولات تمرير رفع السقف دون الخضوع لشروط الجمهوريين وإجراء خفض حاد في الإنفاق الحكومي، تسانده في ذلك وزيرة الخزانة جانين يلين، التي سعت خلال الأيام الماضية إلى تخويف المواطنين وبث الذعر بينهم وارسال رسائل مزعجة للمجلس النيابي عبر رسم صورة سوداوية للاقتصاد الأميركي في حال عدم رفع الكونغرس سقف الدين، والتحذير من تعرض بلادها لفوضى مالية واقتصادية، وعدم قدرة على سداد الديون بداية من شهر يونيو/حزيران المقبل في حال الفشل في الرفع.
بل وذهبت الوزيرة المحنكة إلى التحذير من نفاد السيولة المالية لدى الحكومة، والقول إن واشنطن ستنزلق إلى الكساد الاقتصادي إن لم يتخذ الكونغرس إجراءات عاجلة للرفع.
بالطبع، فإن جزءاً من هذه التصريحات المثيرة للوزيرة جانيت يأتي ضمن مناورة سياسية ومحاولات ضغط تمارسها إدارة بايدن ضد نواب الكونغرس والحزب الجمهوري.
لكن ورغم ذلك، فإن الأزمة الحالية كبيرة والخلاف عميق ومقلق، خاصة في ظل التوقيت الحالي حيث تعاني الموازنة الأميركية من عجز حاد وأعباء مالية ضخمة ناتجة عن تداعيات كورونا وقفزة التضخم، وبعدها تطبيق سياسة التشدد النقدي ورفع أسعار الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة.
إذا استمر الخلاف الحالي على ما هو عليه، فإن الولايات المتحدة تكون على موعد مع أزمة مالية كبرى، فأي تخلف عن السداد يهز صورة الولايات المتحدة المالية، ويطرد الاستثمارات الأجنبية والأموال الساخنة.
وتخلف واشنطن عن سداد ديونها قد يؤدي إلى كارثة ليس فقط للاقتصاد الأمريكي بل وللاقتصاد العالمي أيضا، فعقب التعثر المالي ستسارع مؤسسات التقييم العالمي بخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة.
كما أن التعثر يخيف كبار المقرضين الدوليين البالغ مستحقاتهم المالية 7.3 تريليون دولار، بل وربما يلحق بهم خسائر مالية في حال التوقف عن السداد، وأعني هنا بهؤلاء الصين واليابان وبريطانيا ولوكسمبورغ ودول الخليج وغيرهم، وهي أكبر الدول المستثمرة في أدوات الدين الأميركية الحكومية، ويكفي القول إن استثمارات دول الخليج لوحدها في السندات الأميركية تتجاوز 250 مليار دولار.
ومع الضغوط الشديدة التي يتعرض لها الدولار وتعمق أزمة البنوك الأمريكية وزيادة التضخم ومخاطر الركود، تهتز صورة الولايات المتحدة، أكبر مقترض في العالم والمستقطب الأول للأموال، يوماً بعد يوم، حيث تسيء هذه الأزمات لسمعتها المالية، وتهز الثقة في قطاعها المصرفي والمالي، وتهدد مكانة الورقة الخضراء مع حديث رسمي عن قرب نفاد السيولة.
الولايات المتحدة على موعد مع لحظات صعبة، وهناك أزمة مالية حادة تلوح في الأفق، وهذه الأزمة يحاول بايدن نزع فتيلها.
- مصطفى عبد السلام يكتب: لماذا تتهرّب الأموال الخليجية من البلدان العربية؟ - يونيو 28, 2023
- مصطفى عبد السلام يكتب: بزنس المرتزقة.. فاغنر نموذجا - يونيو 27, 2023
- مصطفى عبد السلام يكتب: ماذا ينتظر روسيا والعالم بعد تمرّد فاغنر؟ - يونيو 26, 2023