عبدالهادي راجي المجالي
Latest posts by عبدالهادي راجي المجالي (see all)

أمس أعجبني اللبن المعروض.. على الثلاجة، في أحد السوبر ماركات وكنت اسأل البائع عن مصدره وأخبرني أنه يأتي من الكرك، على كل حال أيها البائع: لا يوجد ما يمنع أن تتحدد هوية الكرك بالجميد[(1)] أيضا، وإن كانت (إلهية) والجحافل التي انطلقت منها لتحرير بيت المقدس.. جزءًا من هويتها أيضا.

أعطاني البائع (كسرة) منه، وبدأت بمضغها.. كان شهيا ومتقن الصنع، وبجانبي وقفت سيدة في منتصف العمر، وكان عطرها الفواح ينافس رائحة الجميد في أنفي هي تريد شراء (نقانق)[(2)] وأنا أريد شراء الجميد، وقد ظننت من نظرتها أنها تريد تجريب الجميد فعرضت عليها كسرة ولكنها تمنعت وقالت لي: (ما بدي.. شكرا، أصلا ما لازم توكلوا ممكن أيكون ملوث هادا بدو غلي..) وبدأت توجه بعض النصائح لي والمتعلقة بالحمى المالطية، وكم يد مرت عليه.. وعدم وجود تغليف مناسب وما إلى ذلك من ملاحظات صحية.

قلت لها: في فلسطين، وحين تزور القرى الصغيرة والبعيدة، وحين تريد أن تكرمك سيدة المنزل الفلسطينية، فإنها تطبخ لك المفتول، وأول كلمة تقولها لك حين تمر عذوبة الطعم في فمك: (والله يا أمي ع إيدي فتلتو).. في فلسطين إذا أحبك الناس فإنهم يقدمون لك المفتول[(3)]، المنزلي وليس المغلف في أكياس.. أتدرين يا سيدتي لماذا هو المفتول هناك شهيا: لأن اليد التي أنتجته هي اليد التي لا ترتفع إلا للدعاء بالرحمة للشهداء وعودة فلسطين، ولا ترتفع إلا من اجل أن يسيل الماء على الكوع في الوضوء.. وتلك اليد طاهرة مثل طهر السماء، فهي التي حملت الشهداء حين كانوا أطفالا.. هي التي بنت وطنا، وهي التي زرعت الثورة مثلما يزرع الزيتون في الخليل.

أما الكرك.. فتأكدي يا سيدة الحسن والعفاف، أن الله يطهر يد النساء الصابرات العظيمات اللواتي أفقن مع الضوء الأول، كي ينشرن (زعاميط) الجميد على سطح الدار من أجل أن تجف، وتأكدي أن تلك الأيدي أيضا مطهرة، لأن من يجاور جعفر الطيار وزيد وعبدالله.. من يجاور شهداء الأمة، وغرتها والنجوم العالية فيها هو أفضل ممن يجاور فنادق الخمس نجوم ويسكن تحت (كرميد) باهظ الثمن.. وتأكدي يا سيدتي أن ثمن هذا الجميد المعروض يذهب إما من أجل دراسة الابن الأكبر فتحي، أو من أجل خبز الأولاد.

ما بين اليد التي (تفتل) المفتول في جنين، وما بين اليد التي تدور (زعاميط) الجميد في الكرك، تذوب المسافة، لصالح شيء واحد، وهو أن النصر والوطن والحياة والصبر، ينتجون فقط من طهر الأيادي التي تعبد الله وترفع راحاتها بالدعاء إليه، أما اليد التي تضع المناكير، وتتعطر بالكريم الفرنسي الفاخر من أجل طراوة الجلد، وتغتسل (بالهايجين)، فلم تنتج فينا غير الغضب والفقر والأسئلة.

يا سيدتي.. حتى الجراثيم التي تدعين أنها موجودة في الجميد، على الأقل يكفيها شرفا أنها كركية، والجراثيم التي تعلقت بحبات المفتول.. يكفيها شرفا أيضا أنها فلسطينية.. كونها علقت بيد شعب الجبارين.

يا سيدتي.. احتفظي في النصائح لنفسك أرجوك، وأكملي شراء (النقانق).

هوامش

◄ [(1)] الجميد، شكل من أشكال منتجات الألبان المجففة، ينتشر استخدامه في الأردن وفلسطين وشمال السعودية.

◄ [(2)] النقانق، ويعرف أيضا باسم السُجُق، هو اللحم المبهر الموضوع في الأمعاء الدقيقة لهذا الحيوان ويتم تحضير السجق من اللحم المفروم بعد إضافة الملح والتوابل. ويعد السجق من لحوم البقر، والطرائد، والدواجن، والعجول، وفي بعض الأقطار من لحم الأسماك.

◄ [(3)] المفتول، هو أحد الأطباق الفلسطينيّة الشعبيّة يتكوّن من حبيبات أو كرات المفتول الصغيرة التي يتمّ إعدادها يدويًّا في المنزل، أو يتمّ شراؤها جاهزة من الأسواق، وهذا الطبق يتمّ تحضيره في المناسبات الشعبيّة في فلسطين كونه من الأطباق الشعبيّة، يقدّم عادةً في الأعياد والمناسبات. تختلف بعض المكوّنات في تحضيره بحسب المناطق المختلفة ولكنه غالباً ما يحضّر من البرغل، الدقيق الأبيض والأسمر، اللحم، أو الدجاج البلدي، الفلفل، الكمون، الملح. أما اليخني فتتكوّن من اليقطين، البصل، الطماطم، الجزر، الحمص، مرق اللحم، الفلفل والملح.

يختلف صنعه من بلد إلى آخر ففي فلسطين والأردن تجد هذا الطبق يضاف له أحيانا الطماطم المعصورة وأحيانا الطماطم المقشرة والمقطعة بعد فتل المفتول وتكوينه يتم تهبيله أي طبخه على بخار الماء المغلي ويحفظ في المجمدة لحين استخدامه وغالبا ما يفضّل أن يطبخ الدجاج واليخنه وتضاف طبعا بهارات عين الجرادة والبصل وزيت الزيتون والملح والكمون لتضفي النكهة الخاصة التي يتميز بها المفتول.

من عبدالهادي راجي المجالي

‏كاتب صحفي أردني