ومن أهم ما يلزم أن يتوفر في فخامة رئيس الجمهورية (القادم، والسابق، واللاحق) أن يكون (نابتًا) في تربة من الأمانة، وأن تكون نظافة اليد دينه وديدنه، فلا يعرف عنه ولا يشاع أنه أثرى من المنصب، أو انتفخت أرصدته، أو تملك أهله وأبناؤه وحواريوه، بل يدخل نظيفًا ويخرج طاهرًا، أو ربما يدخل غنيًّا ويخرج معوزًا.. أما أن يختلف الناس (فيما هبش) أثلاثة تريليونات، أم ثلاثة وسبعون مليارًا، أم فقط ثلاثة وثلاثون مليارًا (يا ولداه) فهذا يصلح فقط إذا كان رئيس منسر، أو زعيم عصابة لا رئيس جمهورية، لا يكتفي بالنهب والتجريف، بل يسن ترسانة قوانين حامية تجعل من المستحيل محاسبته عن شناعاته المالية هو والعصابة بأفرعها وأذرعها..

 

الدول التي عرفت شيئًا من الديمقراطية والمحاسبة تخرب بيت رئيس وزارة لأنه زوغ من تذكرة المترو، أو شغل ابنه بغير حق، أو أهدي أحدًا شيئًا من بيت مال الأمة، أو تهرب من الضرائب!

 

وكم سمعت من حكاية عن وزراء ورؤساء وزراء في أوربا وغيرها (راحوا بلاش) بسبب خطأ مالي ضبطهم متورطين فيه صحفيٌّ طويل اللسان، فخرجوا بسجل متسخ، وذمة مالية ملطخة بالعار!

 

أما في عالمنا الذي نتخذه مثالاً، فأتحدى أن يقول أحد إن سيد الأولين والآخرين ترك خلفه شيئًا غير درعه المرهونة، وفقره الذي كان يعتبره تشريفًا؛ حتى إنه دعا ذات يوم أن يحييه الله مسكينًا، ويميته مسكينًا، ويحشره في زمرة المساكين؛ لا مع الحيتان والعصبجية ولصوص المال العام!

 

وكان الصِّديق بزازًا وتاجرًا يمتلك قبل إسلامه ستين ألف درهم، والدرهم آنذاك كان يشتري خروفًا، فقدر حضرتك الآن ثمن 60000 خروف، وانظر كم تساوي، وكان أن تبرع بها كلها، حتى سأله النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لأبنائك، فقال: تركت لهم الله ورسوله!

 

وأما الفاروق رضي الله تعالى عنه فقد رئي ذات ظهيرة، وقد اشتدَّ الحر واشتعل الجو نارًا، وأوى الناس إلى بيوتهم هربًا من لفح جهنم الصحراء، وكان عثمان رضي الله عنه ينظر من كوة في بيته، فوجد رجلًا يشتمل ببردته، ويجري وراء جمل أجرب في الصحراء، فتبعه ببصره، فإذا هو أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فسأله: أتجري وراء جمل أجرب؟

 

قال: إيهٍ يا عثمان، إن هذا الجمل من إبل الصدقة، وهو حق الفقراء، فخفتُ أن يضيع؛ فيسألني الله عنه يوم القيامة!

 

وذات جرد لبيت مال المسلمين وجد العامل درهمًا أو دينارًا في التراب فناوله طفلاً من أبناء عمر رضي الله عنه يشتري به حلوى، فلما دخل الولد على أبيه وفي يده الدرهم، سأله: من أين أتيت به؟ فيقول: أعطانيه خازن بيت المال!

 

فيأخذه رضي الله عنه منفعلاً، وينطلق إلى معيقيب عامله يسأله:

 

يا معيقيب: ألا تتقي الله؟ تعطي ابني هذا الدرهم بغير حق، فتخاصمني أمة محمد صلى الله عليه وسلم بين يدي الله؟ ماذا أقول لله غدًا بين يديه؟!

 

وبعد أن فتح المسلمون المدائن وجلولاء وتكريت والموصل والكوفة، حصلت سراياهم على غنائم كثيرة لم يستطع الفارون حملها، فبعث بها سيدنا سعد إلى المدينة – وفيها بساط كسرى وتاجه وسواراه – فلما رآها عمر رضي الله عنه قال: إن قومًا أدوا هذا لأمناء!

 

فقال له علي رضي الله عنه: لقد عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت!

 

ما أروعها: لقد عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت!

 

وحين ولي أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه الخلافة كان أول كتاب كتبه إلى عمَّال الخراج: أما بعد، فإن اللَّه خلق الخلق بالحق، فلا يقبل إلا الحق. خذوا الحق وأعطوا الحق به.

 

والأمانة الأمانة؛ ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم.

 

والوفاء الوفاء ولا تظلموا اليتيم ولا المعاهد فإن اللَّه خصم لمن ظلمهم”.

 

ولم يكتف بذلك – وقد كان من أغني الناس في المدينة – بل جاد رضي الله عنه بماله في نصرة الدين، فاشترى بئر رومة بعشرين ألفًا ووقفها على المسلمين، وجعل دلوه فيها كدِلاِئهم، كما ابتاع توسعة المسجد النبوي بخمسة وعشرين ألفًا.

 

وكان الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ، فأصاب الناس جَهْدٌ حتى بدت الكآبة في وجوه المسلمين، والفرح في وجوه المنافقين، فعلم عثمان ذلك، فاشترى أربعَ عشرة راحلةً بما عليها من الطعام، ووجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسعًا منها، فلما رأى ذلك النبي قال ما هذا؟ قالوا: أُهدي إليك من عثمان!

 

فعُرِفَ الفرحُ في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والكآبة في وجوه المنافقين، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه حتى رُئيَ بياضُ إبطيْه، يدعو لعثمان دعاءً ما سُمِعَ دعا لأحد قبله ولا بعده: اللهم اعط عثمان، اللهم افعل بعثمان!

 

وجهّز رضي الله عنه جيش العُسْرَة بتسعمائةٍ وخمسين بعيرًا وخمسين فرسًا، واستغرق الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعاء له يومها، فجاء بألف دينار حين جهّز جيش العسرة فنثرها في حجره، فجعل صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول:

 

ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم، ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم!

 

وقال سيدي ابن عباس: قحط الناس في زمان أبي بكر فقال رضي الله عنه: لا تمسون حتى يفرج اللَّه عنكم. فلما كان من الغد جاء البشير إليه قال: لقد قدمت لعثمان ألف راحلة برًّا وطعامًا قال: فغدا التجار على عثمان، فقرعوا عليه الباب، فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيها على عاتقه. فقال لهم: ما تريدون؟

 

قالوا: قد بلغنا أنه قدم لك ألف راحلة برًّا وطعامًا.

 

بعنا حتى نوسع به على فقراء المدينة!

 

فقال لهم عثمان: ادخلوا، فدخلوا، فإذا ألف وقر في دار عثمان، فقال لهم: كم تربحونني على شرائي من الشام؟

 

قالوا: العشرة اثني عشر. قال: قد زادوني.

 

قالوا: العشرة أربعة عشر. قال: قد زادوني.

 

قالوا: العشرة خمسة عشر. قال: قد زادوني

 

قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟

 

قال: زادوني بكل درهم عشرة. هل عندكم زيادة؟

 

قالوا: لا. قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة!

 

ومات عثمان فقيرًا معدمًا مرقع الثياب..

 

هل أسوق لك قارئي العزيز مائة مثال آخر على الفرق بين رئيس دولة مؤمنة ورئيس عصابة!؟

من د. عبد السلام البسيوني

باحث وداعية