بسام جرار
Latest posts by بسام جرار (see all)

بعد هزيمة الصليبيين في حطّين وما تلاها رجع الأوروبيّون إلى أوطانهم وقد أكسبهم الاحتكاك بالمسلمين الشيء الكثير على المستوى المعرفي والقيمي، وكان تأثّرهم الأكبر بمسلمي الأندلس، حيث تتلمذ الغربيون في مدارسها وجامعاتها. وفي الوقت الذي بدأ فيه الغربيون ينهضون نتيجة تأثرهم بالمسلمين كان المسلمون قد بدأوا يتراجعون شيئاً فشيئا،ً وبلغ التدهور مداه بدخول المسلمين ما سمي بمرحلة الانحطاط، أي مرحلة التخلف والأميّة.

وشاء الله تعالى أن يكون اللقاء بالغربيين مرة أخرى وقد انقلبت الموازين، فالغربي متنور ومنظم وقوي وغني، والمسلم أمي ضعيف فقير ومتخلف. وشكّل هذا اللقاء صدمة للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة، فلم يكن المسلم يشعر بتخلفه حتى أبصر الغربي المتسلح بالعلم والتكنولوجيا، ولم يكن يشعر بضعفه حتى وقع فريسة للاستعمار الغربي. وكان هذا الواقع الجديد هو التحدي الكبير الذي لم يواجه العالم الإسلامي مثيلاً له عبر تاريخه العريق.

ردود أفعال:

اختلفت ردود أفعال الناس في العالم الإسلامي على هذا التحدي الخطير، واختلف موقفهم من الحضارة الغربيّة، ويمكن حصر هذه المواقف في ثلاثة:

الموقف الأول: موقف المنبهرين بالحضارة الغربيّة، الذين حملوا لواء الدعوة إلى تقليد الغربيين وأخذ حضارتهم بحلوها ومرها خيرها وشرها. وكان لأمثال هؤلاء تأثير كبير في عالم الفكر والإعلام والاقتصاد والسياسة.. ولا يزال العالم الإسلامي يعاني من هؤلاء، حيث عملوا على إلحاق المسلمين بالغرب، وخرجوا على قيم الأمة ومبادئها، بل وحاربوا كل من يعمل من أجل عودة الأمّة إلى ذاتها الحضاريّة.

نعم، لقد نجح هؤلاء لفترة من الزمن، وساعد في نجاحهم حقيقة أنّ الضعيف يتأثر بالقوي، والفقير يتأثر بالغني، والجاهل يتأثر بالعالم. وكانت لهؤلاء صولات وجولات، ولا يزالون يؤثرون في حياتنا الفكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة.

الموقف الثاني: وهو نقيض الموقف الأول، فهؤلاء رفضوا الحضارة الغربية بخيرها وشرها حلوها ومرها، وتقوقعوا على أنفسهم، وكانوا دعاة للتمسك بكل قديم، ورفض كل جديد يأتي من جهة الغربيين. وساد مثل هذا الموقف في بلد كأفغانستان واليمن.. وكان من نتيجته أن بقي أصحابه في تخلفهم وأميتهم، وتجاوَزَهم قطار التقدّم. في المقابل استطاع هؤلاء بتقوقعهم أن يحفظوا أنفسهم من مفاسد الغرب وضلالاته، فلم يأخذوا من خيره ولم يتأثروا بشره.

الموقف الثالث: وهو الموقف الداعي إلى الاستفادة من إيجابيات الحضارة الغربيّة وتوقي سلبياتها. وقد حضّ أصحاب هذا الموقف على مقاومة التبعيّة للغربي، كما ودعوا إلى عدم التقوقع وإلى ضرورة الانفتاح على كل ما هو إيجابي. وقد تميّز هؤلاء بقدرتهم على نقد الحضارة الغربيّة وإبراز مفاسدها، وخاضوا معاركهم الإعلاميّة والفكريّة والسياسيّة… مع أصحاب الموقف الداعي إلى تغريب الأمة الإسلاميّة وإلحاقها بالحضارة الغربيّة. ولم تكن هذه معركتهم الوحيدة، فقد خاضوا معارك فكريّة مع دعاة التقوقع أيضاً.

نتائج:

نتج عن هذه المواقف المتعارضة أمور منها:

1. ساعد موقف المتقوقعين على الحفاظ على تراث الأمة وذاتها الحضاريّة في الفترة التي كانت فيها الأمّة متخلفة وغير قادرة على المواجهة الفكريّة.

2. استفز موقف دعاة التغرب علماء الأمة ومفكريها، فنهضوا ليذودوا عن فكر الأمة وقيمها، فأكسبهم هذا الصراع الوعي الكافي لنقد الحضارة الغربيّة ولتقديم الإسلام في صيغة وثوب معاصرين.

3. ساعد الصراع الذي قام بين المواقف الثلاثة على إبصار السلبيّات والإيجابيات في تراث الأمة الإسلاميّة، وساهم في تصحيح وتصويب الأخطاء. كما ساعد في إبصار سلبيات الحضارة الغربيّة وإيجابياتها.

4. إذا كان موقف المتقوقعين يحافظ على الذات من غير قدرة على التأثير، مع احتمال الانسحاق تحت عجلة التقدم، فإنّ موقف دعاة التغريب وجد له تربة خصبة في ظل الأميّة والتخلف والفقر والفوضى، إلا أنّه موقف غير قابل للاستمرار، لتناقضه مع فكر الأمة وأصالتها. ولا شك أنّ قوة تأثير الحضارة الإسلامية يجعل من هزيمة الفكر التغريبي مسألة وقت، ويجعل من نجاح الموقف الثالث (الموقف النقدي) قضية حتميّة بإذن الله تعالى. والمراقب لمسيرة المجتمعات الإسلاميّة اليوم يدرك أنّ الفكر التغريبي يعاني من هزيمة منكرة جعلت الغرب يخرج عن طوره فيحاول استخدام القوة العسكريّة والاقتصاديّة لفرض مبادئه وقيمه، معلناً بذلك عن هزيمته وإفلاسه، ومبشراً بانتصار الفكر النقدي الوسطي الذي رفض التقوقع ورفض التابعيّة والانسياق، واعتز بذاته الحضاريّة، ولم يمنعه اعتزازه هذا من أن يمارس النقد الذاتي المؤدي إلى التصحيح والتصويب. ولم تمنعه أصالته من الانفتاح على الآخر، لأنّه يملك المقياس، ويملك الضوابط التي تحفظه من التأثر.

من بسام جرار

كاتب وباحث إسلامي فلسطيني