لست من المتشائمين ولست فتاحا للفال ولكنني أرى أن اللعبة قد انتهت وأن الجميع بانتظار صافرة الحكم لإعلان نهاية المباراة التي دامت عشرات السنين لتسحق الملايين من الفقراء والمستضعفين عبر العالم،حيث يتفق كل فقهاء التاريخ السياسي على أن اجتماع العوامل التالية يمثل إنذارا بقيام الحروب الكونية التي تنتج عنها تغييرات جذرية تجتاح كل العالم ويمكن تحديد هذه العوامل بما يلي:
1 – تصاعد الخطاب الشعبوي وتراجع دور النخب التقليدية.
2 – انهيار المرجعيات الأخلاقية التي تضبط سلوك المجتمعات والأفراد.
3 – الضائقة الاقتصادية والكساد الاقتصادي.
4 – وجود مناطق توتر قابلة للاشتعال.
5 – ظهور قوى دولية تجد أنها تحتاج إلى مساحة من النفوذ السياسي على المسرح العالمي يتناسب مع حجمها وهذا ما لاحظناه في حالة ألمانيا في الحربين الأولى والثانية ونراه اليوم في الصعود الألماني حين أصبحت ألمانيا قائدا لقاطرة الاقتصاد الأوربي والصين التي تخترق جدار الاقتصاد العالمي زائدا الاقتصاديات الناشئة والدول الإقليمية التي تطمح بلعب أدوارًا تناسب قوتها الإقليمية ويقابل ذلك كله انسحاب أمريكا من مسرح الأحداث واعتماد سياسة الانكفاء خلف المحيط.
وإذا كان لابد من استحضار مثالا للتراجع الأمريكي فيمكن للقارئ مراجعة كتاب «العالم ما بعد أمريكا» وتعليق رئيس الموساد الأسبق أفرايم هاليفي الذي كتب تعليقا على نسخة الكتاب التي تمت ترجمتها إلى اللغة العبرية يقول فيه (إن على إسرائيل أن تكون جاهزة للبحث عن حلفاء جدد لمواجهة أخطار ما بعد أمريكا).
يمكن أن نؤرخ بعضا من التحولات الكبرى في التاريخ الأوربي والتي ألقت بظلالها على العالم:
أولا- تنصير الدولة الرومانية على يد الإمبراطور قسطنطين والذي اصدر مرسوم ميلانو عام 313 قبل أن يعلن المسيحية دينًا للإمبراطورية ويترأس مجمع نيقية عام 325.
ثانياً- الثورة الفرنسية التي قضت على الحكم البابوي في العام 1789 بعد ما يقارب خمسة عشر قرنا من سلطة الكنيسة التي سادت في أوربا.وكانت الثورة الفرنسية نتيجة موضوعية للثورة الصناعية،بما اصطلح عليه عصر النهضة وإيذانا بسقوط النظام الإقطاعي وشهادة وفاة النظام القديم وصعود الطبقة البرجوازية ووضع الأسس العملية للنظام الرأسمالي.
ثالثا – نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي،فيما أُطلق عليه تسمية نهاية التاريخ على يد منظر المحافظين الجدد في أمريكا (فرانسيس فوكوياما) وأُطْروحَتهُ الأساسيَّة أن مبادئ الليبرالية الاقتصادية، تُشَكِّلُ مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغةٍ نهائيةٍ للحكومة البشرية.
وعلى الرغم من الجدل الذي أثاره فوكوياما إلا أن أحدا لم يتنبّه إلى ما هو جوهري في طروحاته التي يعترف بها ضمنا وبلا وعي أن الرأسمالية وصلت إلى ذروتها وان كل ما تم كماله بدا نقصانه، فالرأسمالية التي كانت تعتمد الفائض الصناعي والتجاري أساساً لها تحولت اليوم إلى رأسمالية مالية بعد تدشين مرحلة ما بعد الصناعة وما بعد التكنولوجيا..
(الرأسمالية تواجه الآن مشكلة أساسية من انخفاض قيمة رأس المال والانتقال إلى نظام القروض وإلى التقادم المحسوب، الذي يليه سباق في المضاربات المالية.ونموذج الاستهلاك من خلال الائتمان والقروض الذي بات يقترب من نهايته. وبعد أن دمرت كل شيء، الرأسمالية، تماما مثل العقرب، لا بد أن تدمر نفسها من خلال تشبع السوق، وانفجار الديون، والاتجاه النزولي في معدل الأرباح، وانحدار أوروبا، والانتشار واسع النطاق في الوعي الزائف، وتفعيل عملية الفوضى من هدم الحضارة، فإن العالم يبدو قد دخل في مرحلة اندفاعية وختامية.
أوروبا اليوم مع عدم وجود الأفق عندها في النمو هي بالفعل على شفا الركود، ويبدو أنها قريبة من الانهيار. فقاعة السندات الحكومية لجميع دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD تؤدي إلى الاستمرار في التضخم. هناك اليوم ما قيمته أكثر من 100 تريليون دولار ” في السندات وأكثر من 555 تريليون دولار في المشتقات المالية. ماذا سيحدث عندما تنفجر “فقاعة السندات” هذه؟
(إنه التدمير الذاتي للرأسمالية) آلين دي بينويست
وانطلاقا من تلك الحقيقة فان الجمهور اليوم على ضفتي الأطلسي بات يعيش حالة من انعدام الثقة بمؤسساته السياسية وفقدت النخبة الليبرالية قدرتها على التأثير في تشكيل الرأي العام رغم الإمكانات المالية والإعلامية التي تمتلكها،وقد بدا ذلك واضحا في تنامي التأييد الشعبي للحركات الشعبوية واليمينية المتطرفة في كل من أمريكا وأوربا،فظاهرة ترامب لم تأتِ من فراغ بل نجد جذورها في أفكار كبير مسشاريه السابقين “ستيفن بانون” الذي ينتمي إلى «اليمين البديل»، وهي حركة معادية للعولمة، جذبت عدداً كبيراً من القوميين البيض الأميركيين. وكانت قد سبقت ذلك، نقطة تحوّل أخرى بالنسبة إليه، هي الأزمة المالية، في عام 2008، التي رأى فيها خيانة للطبقة العاملة، فتبنّى «مبادئ ثورة ب الشاي» المحافظة، ضد النخبة الجمهورية والديمقراطية. حتى وجد بانون نفسه قائداً لما أسماه «حركة حزب الشاي العالمية» ضد نخبة مالية وصفها بـ«حزب دافوس»، في إشارة إلى المنتدى الشهير الذي يستضيف حدثاً سنوياً يحضره لفيف من النخب الاقتصادية، إلى جانب رؤساء الحكومات والوزراء. وفي خطاب بُثّ أمام مؤتمر عُقد في الفاتيكان، ثار على وول ستريت والطبقة الرأسمالية، التي لا يبتعد كثيراً عنها. «الطبقة الوسطى، الرجال والنساء العاملون في العالم… تعبوا من أن يكونوا مسخّرين لما نسميه حزب دافوس»، قال حينها.
وفي ضوء هذه المعطيات يمكن تفسير تعاطف حركة ترامب – بانون مع تطلعات الأحزاب اليمينية الشعبوية في أوربا والتي تدعو إلى تفكيك الاتحاد الأوربي وصولا إلى بلقنة أوربا ..
ولأن إمكانية قيام حرب عالمية أمر غير قابل للتحقق الآن في ظل امتلاك الأطراف لأسلحة نووية من جهة ،وشعور كل الأطراف أن قواعد اللعبة في إدارة العلاقات بين الكبار لم تعد ذات جدوى بسبب تغير مساحات المصالح والتنافس،فلم يعد أمام العالم وأوربا خصوصا سوى الانتقال إلى مرحلة الحرب بالنيابة،أو إعادة تفكيك المجتمعات لبناء منظومة جديدة من المفاهيم الاجتماعية والسياسية تحقق رغبات القوى الفاعلة.. وهذه المرة ستكون أوربا مسرحا للأحداث ..ويكفي استذكار الأحداث التي سبقت الحربين العالميتين الأولى والثانية لندرك أن أوربا اليوم تسير بخطى ثابتة نحو التفكك والحرب من جديد وستكون على طريقة حرب الثلاثين عاما في الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي انتهت بصلح وستفاليا (Peace of Westphalia) 1648. وكانت الضحية الخفية للحرب هي الكنيسة الكاثوليكية…
والضحية القادمة هي الرأسمالية وأدواتها والنخب والأحزاب الليبرالية التي فقدت شرعيتها..
انه عالم يتفكك …
إن مأزق العالم الغربي اليوم يتمثل في صورتين أحلاهما أكثر ظلاما من الأخرى فقد أصبحت أمريكا تشكل عبئا أخلاقياً على منظومة الحضارة الغربية من جهة وعلى الجانب الآخر فان انهيار أمريكا أو انسحابها من مسرح الأحداث لا يمثل خطرا على نفسها كدولة ولكنه يمثل حالة ترعب الكون بكامله لان هذا الانهيار سيؤدي إلى انهيار منظومة التوازنات العسكرية والاقتصادية التي كانت تحكم العالم بموجب قواعد اللعبة التي يصنعها الكبار،حيث ستفقد المنظومة الكونية توازنها وسيؤدي ذلك إلى كارثة شبيهة بانفلات الكواكب من مدارها،والأخطر من كل ذلك سيجد العالم نفسه أمام انعدام مرجعية أخلاقية تحكمه بعد انهيار ثقافة الرأسمالية والتي سبقها انهيار منظومة الفكر الشيوعي مما سيترتب عليه أن يعود العالم إلى التصنيفات الدينية والقبلية التي سبقت قيام الحضارة، ولكن المشكلة تكمن في أن هذه المرجعيات اليوم قد فقدت قيمتها في نظر الجمهور من جيل العولمة الذي تمرد على كل شيء.