أبدأ بالإشارة إلى أني لم يعد لي ما يمكن أن أقوله للنهضة لعلتين:
 
1. فقد قمت بما كنت أعتبره من حقي كتونسي أن أبدي رأيي في خياراتها ومن واجبي كمؤمن بالحل الإسلامي في آن. لكن كلامي كان صيحة في واد.
 
2. ولم أعد أرى جدوى لما قد يقال الآن بخصوصها لأن من بدأ يفهم الرهان الآن يشبه كلامه كلام لا يشعر بالنار إلا بعد الاحتراق لموت بشرته.
 
كلامي أوجهه إلى من يناصبها العداء دون تعقل ولا روية بدليل تشجيه لكل من مبدؤه عدم احترام كل المبادئ وخاصة ما يقدسه شعبه.
 
وبالذات فكلامي موجه إلى الباجي قائد السبسي الذي أراه مقدما على غلطة العمر. لما ترشح لرئاسة تونس توقعت له مآل بورقيبة لأن بدايته كانت مماثلة لبداية مآله. لكني لم أتوقع له نهايته الأليمة التي قد تكون ما ينتج عن استعمال نفس الوسائل التي استعملها في ما سماه جبه الانقاذ الأولى. فمن استعملهم في الاولى سيستعملونه في الثانية. لذلك أراه يعد لنفس المآل الأليم الذي انتهى إليه بورقيبة لأن من ينوي الاعتماد عليهم للانتقام هم من سيقضون عليه ولن يستطيع السيطرة عليهم كما فعل أول مرة لأن من نجاه فيها هم من يريد الحرب عليهم.
 
لن يحترموا شيبته ولن يكون ذا سلطان كاف للتصدي لنهمهم الذي لا حد له فهم لم يعودوا مكتفين بالأكل مع الآكلين يريدون أكل “الملمة واللى ثمة”. لم أكن أتوقع أن عبادة الهوى وحب الانتقام تصل إلى هذ الحد من فقدان البصيرة السياسية وخاصة عند من بلغ أرذل العمر.
 
هل يعتقد أن حلفه مع الجبهة والاتحاد للانتقام من النهضة سيضرها هي أكثر من الإضرار به هو وهو في أرذل العمر؟ كنت أظنه أذكى مما يظهر في هذه الحسبة الخاسرة ألف في المائة. فاليوم الذي ينجح في ما فشل فيه بورقيبة وابن علي -وهو مستبعد لأن للرجلين أكثر منه قدرة وإمكانات- اعتمادا على الظرف الإقليمي والدولي الذي تبدو رياحه تنفخ في شراعه سيكون نكبة له قبل النهضة وقد يخرب تونس بحمق من يستنجد بهم في انتقامه ولن يصبروا عليه بل سيرمونه بمجرد أن يوصلهم إلى ما عجزوا دونه من دونه.
 
صحيح أن بورقيبة “انتصر” على الحزب القديم بالباندية والدوكارات و”انتصر” على اليوسفية بالعاشورية والباندية وابن علي “انتصر” على النهضة بما بقي من الاتحاد بعد انقراض كباره وبمخترقيه من اليساريين والقوميين وبكل صبابة الداخلية من الحثالة لكن مآله معلوم. وبورقيبة وابن علي خاضا معاركهما في عمر يمكن من المطاولة. وذلك ما ليس في متناول الباجي.
فيكون المسكين جاء بنية إحياء البورقيبية فإذا به سيكون المعول الذي يقضي على ثمالتها التي يلفها النسيان وستزيل الجبهة التي خارج الاتحاد والتي فيه كل آثارها التي يمكن أن تكون المشترك بين الحزبين القديم والجديد لكي تصبح تونس يحكمها حفاتر وسيسيات العبيد لدى الإمارات والسعودية.
 
ففرنسا لم يعد بوسعه الاعتماد عليها إذ قد أصبح لها كثير من “القطط للجلد” كما يقول مثلها ولن تهتم كثيرا في منافسة المحميتين اللتين تقودان الثورة المضادة في الاقليم لخدمة ذراعي الاستعمار الذي عاد من جديد بعد أن شرعت الشعوب في الثورة على عملائه الذين كان يحكم بهم المحميات العربية استعمارا غير مباشر.
 
ولعل العزاء الوحيد للسبسي أنه لم يعد له أمل كبير في طول حياة قد يؤدي به إلى عيش ما عاشه بورقيبة أي ثلاثة عشر سنة من السجن بيد من جاء به لإنقاذه -ابن علي-لأن ما ينبغي أن يتوقعه مما ينوي عمله بمن اختارهم للانتقام من النهضة لن يكونوا أرحم به من ابن علي ببورقيبة: فليته لا يغفل عن ذلك.
والعزاء الوحيد هو أن الخطر الذي تمثله أداتا انتقام الباجي لا يهدد النهضة وحدها بل لعلها أقل من يتعرضون للتهديد من غيرها لأن الأداتان لا وزن حقيقي لهما أمام الإسلاميين لولا وضع الإقليم والعالم في علاقته بالإسلام السياسي.
 
فهل الليبرالي واصحاب الأعمال وغالب الشعب يقبلون هذا المآل؟
 
من سيقبل العيش في مناخ إيديولوجية ماركسية متخلفة ثقافتها دون الكتاب الاحمر وثقافة نقابية لم تتحرر من ا ليعقوبية ومن السي جي تي مطعمة بالقبلية التي فرضت على شعوب الخليج وتقود ثورة مضادة تريد فرضها على العرب كلهم فيصبح عبدا ويضع مستقبل تونس وأبنائها بين يدي هذا الخليط خاصة وأسطورة أخونة تونس لم يعد يصدقها أحد بعد أن جربوا مشاركة الإسلاميين في الحكم مشاركة جعلتهم هم أكثر تغيرا للاقتراب من النمط أكثر من تغييره ليقترب منهم.
 
من سيقبل من التونسيين أن يحكمه اليساري والقومي وباندية الحانات والمقاهي ومافيات الاقتصاد الموازي ويرفض التقدم البطيء نحو حياة ديموقراطية يتصالح فيها كل التونسيين ويحتكمون إلى الحلول التي تتميز بيها كل الشعوب الناضحة في علاج قضايا الحكم والسياسة علاجا سلميا يلغي البلطجة الذين لا يحترمون شيئا لفرط الجهل والجهالة؟

من د. أبو يعرب المرزوقي

فيلسوف عربي تونسي