- بسام جرار يكتب: جريمة الزنا - مايو 7, 2019
- المصارف - أبريل 27, 2019
- أكاد أخفيها - مارس 11, 2019
جاء في الآية 4 من سورة يوسف:”إذ قال يوسف لأبيه يا أبتِ إنّي رأيتُ أحدَ عشرَ كوكباً والشمسَ والقمرَ رأيتُهم لي ساجدين”.
وجاء في الحديث الصحيح أنّ أول ما بُدِئ به الرسول، صلى الله عليه وسلم، من الوحي الرؤيا الصادقة. ولا يبعد أن يكون ذلك سُنّة في الأنبياء. وإذا صحّ هذا الفرض فإنّ أول ما بُدِئ به إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، عليهم السلام، من الوحي هو الرؤيا الصادقة. وهذا يعني أنّ يعقوب، عليه السّلام، كان ينتظر بشغف أن تستمر سلسلة النبوة في نسله، كيف لا، وهو نبيّ، وأبوهُ نبيّ، وعمُّهُ نبيّ، وجدّهُ نبيّ ؟!
ولكن في أيّ الأبناء ستكون النبوّة، وفي أيّهم ستكتمل النّعمة الرّبانية؟! بإمكانك أن تتصور بعض ما في قلب يعقوب، عليه السلام، من شوق وتلهّف لمعرفة المصطفى من بين أبنائه الإثني عشر. وبإمكانك أن تتخيّل يعقوب، عليه السّلام، وهو يوصي أبناءه أن يسارعوا إلى إخباره بما يرونه في مناماتهم. ويدفعنا إلى ترجيح مثل هذا الاحتمال ما نلمسه من مسارعة يوسف، عليه السلام، في عرض رؤياه على والده:”يا أبتِ إنّي رأيتُ”. وتظهر المسارعة في قوله رأيت بصيغة الماضي. أمّا الملك، الواردة قصّته في السورة، فقد تريّث قبل أن يعرض رؤياه على الملأ:”وقال الملك إنّي أرى”، والفعل المضارع أرى يدلّ على تكرار الرؤيا لدى الملك قبل أن يعرضها على المستشارين. وكذلك الأمر في رؤيا صاحبي السجن:”..قال أحدهما إنّي أراني أعصرُ خَمراً، وقال الآخرُ إنّي أراني أحملُ فوق رأسي خُبزاً…”. (يوسف: 36)
إذا كان تأويل الرؤى من خصائص النبوّة، فمن البدهيّ أن يَعلمَ يعقوب، عليه السّلام، من سياق الرؤيا، أنّ استمرار سلسلة النبوّة سيكون في يوسف، عليه السّلام. بل إنّ الرؤيا لتُخبر بأنّ يوسف هو أكثر من نبيّ، إنّه رسول. ويظهر ذلك جلياً في سجود يعقوب النبيّ لابنه يوسف، عليهما السّلام:”والشمسَ والقمرَ رأيتُهم لي ساجدين”؛ فالشمس تَرمز إلى والده، والقمر يرمز إلى أمّه، والكواكب ترمز إلى إخوته، كما ظهر عند تأويل الرؤيا بعد سنين طويلة:”ورفعَ أبويهِ على العرش، وخَرّوا لهُ سُجّداً، وقال يا أبتِ هذا تأويلُ رؤيايَ مِن قبلُ قد جعلها ربّي حقّا…”. يبدو أنّ هذا ما فهمه يعقوب، بمجرد استماعه لرؤيا يوسف، عليهما السّلام، فقال:”وكذلك يَجتبيكَ ربّك، ويُعلّمكَ مِن تأويلِ الأحاديث، ويتمّ نعمتهُ عليكَ وعلى آل يعقوبَ، كما أتمّها على أبويكَ مِن قَبلُ إبراهيمَ وإسحق، إنّ ربكَ عليمٌ حكيم”. فرؤيا يوسف، عليه السلام، تدل بوضوح على أنّ الاجتباء المنتظر سيكون له، وفيه سيكون تمام النعمة، التي كانت في إبراهيم وإسحق، ويعقوب، عليهم السّلام.
بإمكاننا أن نتخيّل مشاعر يعقوب تجاه يوسف، عليهما السلام، فقد بات يعلم أنّ هذا الفتى الصّغير هو الرسول المختار. فهل يلام، عليه السّلام، بعد ذلك في حبّه له؟! إنّه الحبُّ في الله، الذي هو في الأنبياء فوق حبّ الأهل والأبناء، وفوق كل حُبّ يكون لمخلوق. مِن هنا يظهر خطأ من يجعل حبّ يعقوب ليوسف، عليهما السلام، وما نتج عنه درساً في دعوة الآباء إلى عدم التمييز بين الأبناء. فحاشاه، عليه السلام، أن يُفرّق في سلوكه وتعامله الدنيويّ؛ فهو الأعلم بما يجوز، وما لا يجوز، ولكنّه كما قال:”وأعلمُ من الله ما لا تعلمون”.
لقد شاهد يعقوب، عليه السلام، أحداث المستقبل في رؤيا ولده. كيف لا، وهو النبي الذي علمه الله تعالى تأويل الأحاديث:”وكذلك يجتبيك ربك ويعلّمك من تأويل الأحاديث…”؟! ومن كان عنده مثل هذا اليقين كيف يُصَدِّقُ أنّ الذئب يأكل من سيكون الرسول المصطفى، وكيف لا يبكي حتى تَبيضّ عيناهُ من الحزن على فراق صبيٍّ صغير تجلّت فيه إرهاصات الرسول الكريم، وكيف لا يناديه صباح مساء، وهو يعلم أنّه حيّ في مكان ما ويجهل حاله؟! لم يكن ما كان من يعقوب، عليه السلام، ضعفاً بشرياً، بل قوة روحانيّة، نُعْذَر نحن في عدم قدرتنا على تصوّرها، وإن كنّا ندرك أنّ من كان مُخلَصاً لله تعالى اشتد تَعلّقه بكل ما يُذَكّر به سبحانه. وشتّان بين حبّ مَن هم مِن أهل الدنيا، وحبّ مَن هم مِن أهل الآخرة.