بسام جرار
Latest posts by بسام جرار (see all)

قال تعالى:”وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ”. (يوسف: 58)

 

عندما دخل إخوة يوسف ،عليه السلام، عليه لأول قدوم لهم إلى مصر، عرفهم ولم يعرفوه. وهذا متوقّع لأكثر من سبب:

 

1- كان يوسف،عليه السلام، صغيراً عندما ألقاه إخوته في البئر وهو الآن كبير، ثمّ إنّ بُعد العهد يُنسي.

 

2- المقام الذي فيه يوسف،عليه السلام، يجعل الأمر بعيداً عن الذهن، حتى لو وجد الشبه.

 

3- تختلف الهيئة في بلاد الحضر عنها في بلاد البداوة، فكيف بنا ويوسف،عليه السلام، في مقام السّلطان.

 

أمّا كيف عرفهم،عليه السلام، فهذا أيضاً متوقع لأكثر من سبب:

 

1- دخولهم بشكل جماعي يجعل الأمر سهلاً، بل وأقرب إلى الحتميّة، فهؤلاء عشرة، لا يسهل نسيانهم مجتمعين.

 

2- كونهم أكبر سناً من يوسف،عليه السلام، على تفاوت بينهم في ذلك، يجعل التغيّر في هيئاتهم ضئيلاً بالمقارنة مع التغيّرات التي تطرأ على الفتى الصغير عندما يكبر.

 

3- هيآتهم البدويّة تجعل من السهل معرفة أنّهم غرباء، وتساعد لهجتهم في التذكير بهم.

 

4- لا شك أنّ إلقاء الفتى يوسف،عليه السلام، في البئر يُشكّل صدمة له وهو يراهم مجتمعين يتآمرون عليه، وإنّ مثل هذه الصورة لا تُمحى من الذاكرة.

 

5- وحتى لو شكّ،عليه السلام، عندما رآهم، أنّهم إخوته، فيمكنه أن يستدرجهم في الكلام، فيعرفهم معرفة يقينيّة.

 

وهنا يثور سؤال: ما الحكمة في تريّث يوسف،عليه السلام، قبل

 

أن يكشف لهم عن شخصه؟!

 

إنّ الحكمة وبعد النّظر وهيمنة العقل على القلب، كلّ ذلك جعل يوسف، عليه السلام، يتريّث من أجل أن يُحقق أموراً يرى فيها الخير لأهله. ونحن هنا نحاول أن نستكشف بعض وجوه هذه الحكمة، مع إقرارنا بأنّ حكمة الرسل، عليهم السلام، تبقى فوق قدراتنا على الفهم والإدراك، كيف لا، وهم ينهلون من معين الوحي الرّباني؟!

 

كان أهل يوسف،عليه السلام، يعيشون في مجتمع بدوي، وقد صرّح القرآن الكريم بذلك: “وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم منَ الْبَدْوِ…”. ومعلوم أنّ من مقاصد الدين نقل الناس من طور البداوة إلى طور التحضّر؛ فأنت تجد الإسلام، مثلاً، يُحرّم الرجوع إلى البداوة بعد التحضّر، بل يعتبر ذلك من الكبائر. وعليه فمن المتوقّع أن يعمل، عليه السلام، على انتقال أهله إلى حاضرة مصر، وهو بذلك يُحسِن إليهم. انظر قوله يخاطب أباه، عليهما السلام:”…وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ…”، فهو، عليه السلام، يعتبر مجيء أهله إلى مصر من نِعَم الله تعالى عليه.

 

ولكن كيف يمكن ليوسف، عليه السلام، أن يحقق ذلك الهدف؟!

 

1- ليس من السّهل على إخوة يوسف، عليه السلام، أن يقبلوا الرحيل إلى مصر عند أول زيارة. وعليه فلا بدّ من جعلهم يألفون مصر بكثرة ترددهم عليها.

 

2- عندما تسوء حالتهم الاقتصاديّة، وذلك نتيجة استفحال القحط، يصبح من السهل إقناعهم بترك وطنهم والقدوم إلى مصر. من هنا نلاحظ أنّ يوسف، عليه السلام، بادر إلى الكشف عن شخصه عندما شعر بأنّ إخوته قد بلغوا حالة الفقر الشديد. انظر قولهم لدى دخولهم الثالث عليه:” فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ”.

 

3- بادر يوسف، عليه السلام، إلى إحضار أخيه الصّغير واحتجزه عنده، فكان في ذلك ضمانة لرجوعهم إليه، كما وسبق له أن ردّ إليهم بضاعتهم سِرّاً ليضمن رجوعهم، وهو بذلك كُلّه يرسل الرسائل إلى أبيه، بدليل قول يعقوب، عليه السلام:” يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ…”، بل إنّ حزن يعقوب العميق كان بسبب علمه بوجود يوسف، عليهما السلام، فقد أدرك أنّ ولده الصغير موجود عند يوسف، عليه السلام، فأثار ذلك حزنه. انظر قوله تعالى على لسان يعقوب،عليه السلام:” وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ”، ولم يقل: “يا أسفى على بنيامين”، لأنّ فقدان بنيامين ذكّره بيوسف، عليه السلام. ثمّ انظر قوله تعالى: “يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ…”. وأخيراً انظر قوله تعالى على لسان يعقوب،عليه السلام:” قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ”.

من بسام جرار

كاتب وباحث إسلامي فلسطيني