«الأرقم بن أبي الأرقم».. صاحب «دار الإسلام» الذي ظلمه التاريخ والتأريخ

فتى مكة:

فتى مكة الذهبي، وصاحب «دار الإسلام»..

من بيته انطلقت دعوة الإسلام للعالم..

وفي فناء بيته، وبين جدرانه، أُعلِنت شهادة «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» لأول مرة على ظهر الأرض، وكانت أول صلاة جماعة للمسلمين..

هو أول كاتبٍ للنبي،

وأول كاتبٍ للوحي، كما أجمع المؤرّخون

– لم يكن فتى قريش «الأرقم بن أبي الأرقم» قد تجاوز السادسة عشرة من عمره، حين أعلن إسلامه على يد الصدّيق أبي بكر، ليكون عاشر الذين أسلموا،

– كان الفتى الأرقم ذكيا حكيما، استطاع أن يخدع قريش طويلا، فلم يخطر ببال أحدٍ أن دار الفتى المخزومي، هي ملتقى محمدٍ وأصحابه، وأن الفتى الوسيم أصبح مسلما، يكفرُ بآلهتهم وما يعبدون، حتى أسلمَ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وأصبح الفاروق عمر هو رقم أربعين في ترتيب الذين أسلموا، فانطلقوا من دار الأرقم إلى أرجاء الدنيا.. فقد روى الطبري عن عبد الله بن عبيدة قال: «ما زال النبيّ مستخفيا حتى نزلت (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فخرج هو وأصحابه».. ويقال إنها نزلت يوم إسلام الفاروق عمر .

– انتظم المسلمون في صَفّين وساروا بثقةٍ وثباتٍ، فكان على رأس الصف الأول البطل الصنديد أسد الله حمزة بن عبد المطلب، وعلى رأس الصف الآخر، فاروق الإسلام عمر بن الخطاب – الذي لم يكن مرَّ على إسلامه إلا نصف يوم، رضي الله عنهم أجمعين …

– فلما نظرت قريش إلى هذا المشهد الكبير الذي يتقدمه هذان البطلان، وبينهما الرسول ، أصابت أهل مكة الكآبة، ومزّقهم الحزن والخوف من هذا المشهد، وتخبّطوا تخبّطا شديدا، فالمسلمون يخرجون لأول مرةٍ دون وجلٍ أو خوف، وهم يزأرون جميعا: الله أكبر ولله الحمد، ويطوفون بالبيت علانيةً ، فتهتز جغرافيا مكة، وتتزلزل قلوب أفئدة المشركين.

– خافت قريش من هذا المشهد المرعب، ودخلت بيوتها خوفًا من إسلام عمر، ومن الرسول وصحابته (رضى الله عنهم) ومن هنا بدأ نشر الإسلام علنًا، نهارًا جهارًا

الأرقم بن أبي الأرقم:

اسم «الأرقم» في معاجم اللغة = وحش ضاري (أسد) كان موجودا في شبه الجزيرة العربية وانقرض في وقت الجاهلية، وكان من يصطاده يعتبر من الأقوياء، لأن أسد الأرقم كان ضاريا فتّاكا.

أما «أرقم» بدون الألف واللام، اسم لأخبث الحيّات، وهي ملوّنة بالأبيض والأسوَد.

– أبو عبد الله، الأَرقم بن أَبي الأرقم بن أسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مُرّة بن كعب بن لؤيّ القرشيّ المخزوميّ، صحابي رفيع الشأن من عشيرة مخزوم التي عُرفت بالغنى والمكانة الرفيعة في مكة، كما عُرِفت قبل الإِسلام بشدة عداوتها للنبي، أما أمّه فتُنسب إِلى قبيلة خزاعة.

– وُلِدَ الأرقم بن أبي الأرقم في مكة، قبل البعثة النبوية بحوالي ستة عشرة سنة، وكان يجيد القراءة والكتابة، واعيا، ذكيا، حكيما، يتدفقُ شبابا ووسامة، ولذا لم يخطر ببال أحدٍ في قريش، أن يدخل هذا الفتى المخزومي الثري، في دين محمد، وأن داره هي مكان الدعوة.

– عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: خرج أبو بكر يريد رسول الله، وكان صديقا للنبي في الجاهلية، فلقيه فقال: يا أبا القاسم.. فُـقِـدتَ من مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها، فقال رسول الله: إني رسول الله أدعوك إلى الله عز وجل، فلما فرغ رسول الله من كلامه أسلم أبو بكر، فانطلق عنه رسول الله وما بين الأخشبين أحدٌ أكثر سرورًا منه بإسلام أبي بكر، ومضى أبو بكر وراح لعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، فأسلموا، ثم جاء الغد عثمان بن مظعون، وأبا عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن أبي الأرقم، فأسلموا (رضي الله عنهم)

دارُ الإسلام:

– تلك الدار الجليلة التي ينشرُ ذكرها عبق الدعوة الإسلامية في مهدها، حيث السِّريّة التامة، والتضحية النادرة، والتعاليم النبوية غضة طرية من فم النبي .

– إنها مصنع الأوائل الأفذاذ، وسادة الناس، الذين حملوا هَـمّ الدعوة إلى الله، فأسلم ببركة جهدهم وجهادهم، العرب والعجم، في شتى بقاع الأرض.

– كان كثيرٌ من الصحابة الأوائل (رضي الله عنهم) قد أسلم قبل أن يدخل النبي دار الأرقم بن أبي الأرقم ، منهم أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وخباب، وعامر بن فهيرة، ومعمر بن الحارث، وواقد بن عبد الله، وعثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وأبو عبيدة بن الجراح، وغيرهم. «سير أعلام النبلاء» (3/119).

الكاتب الأول للوحي:

– كانت «دار الأرقم بن أبي الأرقم» على جبل الصفا، قريبة من الكعبة، وهي المنطقة التي لا يسكنها إلا أثرياء قريش وكبارها، وهذا يدل على مكانة الفتى «الأرقم»، كما أن جميع الآيات القرآنية التي نزلت على النبي خلال ثلاث سنوات من بداية الدعوة، وكانت تتداول سرًا بين المسلمين، كُتبت كلها في دار الأرقم، ومعظمها كان بخط يد الأرقم، ومنها الصحيفة الشهيرة التي كانت بها آيات من سورة “طه” التي أسلم بسببها الفاروق عمر بن الخطاب..

ولذا ستظل «دار الأرقم» هي «دار الإسلام» وجامعته الأولى، ونقطة انطلاق العقيدة للعالم

– بقى الرسول مدة ثلاث سنوات يدعو الناس إلى الإسلام بشكل سرِّي في دار الأرقم، وحين ازداد اضطهاد المشركين للنبي وأصحابه، أخذوا يختفون فيها ويقيمون صلاتهم ومحادثاتهم السرية، ويتعلمون القرآن ويتلقون عن الرسول كل جديد من الوحي، ويتدارسه معهم ويأمرهم باستظهاره وفهمه، وفى هذه الدار أسلم كبار الصحابة، وأوائل المسلمين، حتى بلغوا أربعين فردا، فخرجوا يجهرون بالدعوة إلى الله.

الداهية:

– كانت الدارُ بعيدةً عن أعين المشركين وتفكيرهم، وبمعزلٍ عن المتربصين بالمسلمين في مكة، وكان اختيار «دار الأرقم» لتكون مأوىً للمستضعفين والمطاردين، خداعا استراتيجيا وعسكريا من النبي وأصحابه لكفار قريش، فلم يتقابل المسلمون في دار النبي، أو أبي بكر، أو عليّ، أو كبار الذين أسلموا، ولكنهم اختاروا دارًا لا تخطر على بال أحدٍ، لأن «الأرقم» الداهية، كتم إسلامه، ولم يخبر حتى أقاربه، ليحمي النبي وصحابته.

بالإضافة إلى أن «الأرقم» كان صغيرا، ولن تبحث قريش في بيوت الصبيان عن النبي وأصحابه، وكان من قبيلة بني مخزوم، العدو التاريخي لـ«بني هاشم» التي ينتمي إليها النبي .

المُعلِّمُ الأول بعد النبي:

كان «الأرقم بن أبي الأرقم» مصدر ثقة للنبي ولذا أسند إليه مهمة القيام على حلقات العلم والتثقيف وقراءة القرآن الكريم التي كانت تدار في داره، لسبقه في الإسلام وعدم انقطاعه عن مجلس الرسول وإتقانه التلاوة، والعلم بملابسات الأحوال التي نزلت النصوص فيها، والفهم بمعاني القرآن وألفاظه، والمعرفة بمفاهيم الإسلام وشرائعه.

النبي يستشهد الأرقم في شق القمر:

يُروى أن الرسول استشهده على واقعة شق القمر المرويّة، فيما أخرجه الحافظ أبو نعيم عن ابن عباس في قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله ، منهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، وغيرهم من عتاة الكُفر، فقالوا للنبي : إن كنت صادقـًا، فشُقَّ لنا القمر فرقتين، نصفًا على جبل أبي قبيس ونصفًا على قعيقعان، فقال لهم النبي : (إن فعلت هل تؤمنون؟) ، قالوا: نعم، وكانت ليلة بدر، فسأل الله عز وجل أن يعطيه ما سألوا، فأمسى القمر نصفًا على هذا الجبل ونصفا على ذاك.. ورسول الله ينادي: «يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن الأرقم اشهدا».

الهجرة:

هاجر الأرقم مع المهاجرين إِلى المدينة المنورة وأقام في حيّ بني زريق، وعُرف بيته أيضًا هناك بدار الأرقم، وقد آخى الرسول بينه وبين أبي طلحة زيد بن سهل، وكان سعد بن أبي وقاص صديقـًا حميمًا له.

– شهدَ الأرقم غزوة بدر، وأحد، والخندق، والغزوات كلها، ولم يتخلف عن الجهاد، وأعطاه الرسول دارًا بالمدينة في بني زريق، واستعمله على الصدقة،

الخروج إلى بيت المقدس:

تجهّـز الأرقم يومًا، وأرادَ الخروج إلى بيتِ المقدس، فلما فرغَ من التجهيز والإعداد، جاءَ إلى النبي يودّعهُ، فقالَ لهُ رسول الله: (ما يخرجكَ يا أبا عبد الله، أحاجة أم تجارة..؟) فقالَ لهُ الأرقم: (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، إني أريد الصلاة في بيتِ المقدس)، فقال لهُ رسول الله: (صلاة في مسجدي هذا خيرٌ من ألفِ صلاة فيما سواه إلا المسجدِ الحرام ..) فجلس الأرقم، وعادَ إلى دارهِ مطيعًا للنبي ، ومُنفّـذًا لأوامره..

وفاة الأرقم:

ظل الأرقم (رضي الله عنه) على عهده وجهاده في سبيل الله، بعد وفاة النبي، شارك في جميع المعارك والفتوحات التي تمت في عهد الخلفاء الراشدين، باحثا عن الشهادة، لا يبخل بماله ولا نفسه، ولما استشعر قرب أجله في عهد معاوية بن أبي سفيان، أوصى بأن يصلي عليه سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) ومات سنة 55هـ، وكان سعد غائبًا عن المدينة آنذاك، فأراد مروان بن الحكم – أمير المدينة- أن يصلي عليه، فرفض عبيد الله بن الأرقم، فقال مروان: أيُحبس صاحب رسول الله لرجلٍ غائب؟ ورفض ابنه عبيد الله بن الأرقم أن يصلي عليه أحدٌ غير سعد بن أبي وقاص، وتبعه بنو مخزوم على ذلك، حتى جاء سعد، وصلى عليه.

قال عثمان بن الأرقم: تُوفيَ أبي سنة 53 هـ، وله 83 سنة.

هل نسى التاريخُ «الأرقم بن أبي الأرقم»؟

– الأرقم واحدٌ من عشرات الآلاف الذين كانوا حول الرسول ، قاتلوا بإخلاص لتصبح كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ولترتفع راية الإسلام في كل مكان على وجه الأرض..

– واحدٌ من عشرات الآلاف الذين قاتلوا مع النبي، وساهموا في نشر الدعوة الإسلامية مع خلفاء الرسول الكريم، بصفتهم جُند الله المجهولين الذين كانوا يحلمون بنيل الشهادة، أو النصر المبين على أعداء الله.. عاشوا وماتوا لا يعرفهم أحد، زاهدين مجهولين..

فقد شهدَ «الأرقم» مع الرسول ، المشاهد والمواقع كلها، وأعطاه النبي يوم بدر سيفـًا ومتاع بني عائذ المخزومي نفلًا، وقد نُقلت عنه بعض الأحاديث النبوية، فلم يكن الأرقم باحثا عن شُهرة، أو طامعا في منصبٍ وجاه، فهو من السابقين الذي حضروا بدرا، ووعدهم الله بالجنة.

البُعد عن الأضواء:

– منذ أن كان المسلمون يجتمعون في بيته في أوائل الدعوة، وهو المسلم الحكيم الزاهد الوَرِع، ولذا لن تجده إلا باحثا عن الشهادة، ورغم أنه كان عامل الفاروق عمر ،على المدينة (أمير المدينة)، ومسئولا عن الصدقات، فهو الرجل البعيد عن الأضواء، الهارب من الجاه، مثله مثل السابقين الكبار، عظماء الإسلام: الخباب، وعامر بن فهيرة، ومعمر بن الحارث، وواقد بن عبد الله، وعثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وهُم من العشرة الأُوُل في الإسلام، لكن تاريخهم لم تُسلّط عليه الأضواء، ولم يفرد لهم الباحثون الكتب، فالشهرةُ نوعٌ من أنواع الرزق، فما بالنا بالذين يزهدونها، ويزهدون الدنيا وما فيها، رضوان الله عليهم أجمعين.

صاحبُ الدار:

لقد كانت مرحلة دار الأرقم، مرحلة مهمة في تربية وإعداد الصحابة، ومدرسة رَبَّى فيها رسول الله أفذاذ الرجال، الذين حملوا راية التوحيد والجهاد والدعوة، فدانت لهم الجزيرة العربية، وقاموا بالفتوحات الإسلامية العظيمة في نصف قرن ..

ولولا هذه الدار لأغفل التاريخ حياة المجاهد الوَرِع «الأرقم بن أبي الأرقم» الطويلة، التي امتدت إلى 83 عامًا، شأنه في ذلك شأن عامة الصحابة الذين توفي عنهم رسول الله .

– رحم الله «الأرقم بن أبي الأرقم» فتى مكة الذهبي، الذي طلّقَ الدنيا كلها، وهو لم يكمل ستة عشر عاما، وفتح بيته للنبي والمسلمين، وإذا كانت كتب التأريخ لم تنصفه، ولم تثمّن دوره الرائد العظيم، في خدمة الإسلام والمسلمين، فيكفيه فخرا، أنه صاحب «دار الدعوة» والبيت الذي انطلق منه الإسلام إلى أرجاء الدنيا، إلى أن يرث اللهُ الأرض وما عليها

سيّدي الأرقم.. نحنُ نقدّرك، ونثمّن دورك العظيم، الذي نجني ثماره نحنُ الآن، ونطمع أن يجمعنا الله بك على حَوض الحبيب محمد ..

سيّدي الأرقم…سلام اللهِ عليكَ ورحمته وبركاته

المصدر:

موسوعة: شموسٌ خلفَ غيومِ التأريخ – الجزء الأول – يسري الخطيب

من يسري الخطيب

- شاعر وباحث ومترجم - رئيس القسم الثقافي